نهضة العلوم الطبية في إسبانيا العربية وتأثيرها في أوربا
للدكتور زكي علي
من بين الكتب التي ظهرت أخيراً عن الحرب الأهلية المروعة القائمة في إسبانيا الآن كتاب (الثورة في إسبانيا) قال فيه مؤلفاه هاري جانس وتيودور رابارد في معرض الكلام عن ماضي إسبانيا: (إن طرد العرب من إسبانيا كان كارثة على مدنيتها وقد كان الباعث عليه التعصب للروح الإقطاعية السائدة في أوربا والرغبة في تقويض دعائم الثقافة العربية وتأثيرها)
وقد أعادت الحرب الحاضرة في إسبانيا ذكريات تاريخها الماضي وكيف كان عهد العرب أزهى عصورها، وكثيراً ما أشارت صحف أوربا إلى ذلك الماضي إما بالمقالات أو بالصور. وأذكر أنني رأيت صورتين رمزيتين تبعثان في النفس مزيد الاعتبار إحداهما في صحيفة أمريكية تمثل (عودة العرب) والأخرى على غلاف مجلة سويسرية مصورة تمثل (العرب على أبواب مدريد) إشارة إلى انتظام فرق من عرب المغرب الإسباني في سلك جيش الجنرال فرانكو لفتح إسبانيا، ولكن شتان بين الفتحين، وما أعظم الفرق بين العهدين. ولست بصدد الكلام عن تاريخ الفتوحات والحروب وإنما أحببت اتخاذاً الأحوال الحاضرة وسيلة للتذكير بما كانت عليه إسبانيا من النهضة على عهد العرب قاصراً الكلام على العلوم الطبية وما كان لها من تأثير ونفوذ في الحركة الفكرية في أوربا في ذلك الحين وهي التي صارت أساس نهضتها فيما بعد.
كان لتألق نجم الثقافة العربية في سماء إسبانيا على أثر الفتح الإسلامي أعظم الأثر في نهضة العلوم الطبية لا في إسبانيا وحدها بل في أوربا بأجمعها. وكان لما أولاه الخلفاء العلوم والفنون من العناية والتشجيع فضل كبير في ازدهار الحركة الفكرية والنشاط العقلي وانبعاث أضواء الحضارة العربية لتسري في سائر أنحاء أوروبا، وسرعان ما أصبحت إسبانيا أسطع درة في سلسلة الثقافة العربية الممتدة من ربوع الهند إلى أقصى غرب أوربا، وعن طريق هذه الحلقات المتصلة من مدنية الإسلام تدفقت الكنوز الضخمة من علوم الأقدمين التي كانت نسياً منسياً قبل أن يبعثها العرب ويضيفوا إليها كنوزاً غنية جديدة