حين أوشكت صحيفة القرن التاسع عشر تطوي نشرت في أوربا راية دين جديد، ذلك هو دين القوة، وكان حامل لوائه بل رسوله المبشر به هو الفيلسوف الألماني فريدرش نيتشه
على أنَّا نحب أن نبدد وهماً قد يعلق بالأذهان، فنسارع إلى القول بأن عبادة القوة والأيمان بأثرها الحاسم في حياة الأفراد والشعوب، دين قديم جديد، اعتنقته الإنسانية في كل مراحل التاريخ من غير أن تجهر به، فكبدها ما أنفقت من دموع ودماء
وفي الحق أنك لو جردت الإنسان من الطلاء المدنية، ذلك الطلاء الذي هو بمثابة القشرة الخارجية التي يصطنعها ليخفي تحتها أطماعه تارة، وضعفه طوراً، لتبدَّى في ثياب الإنسان الأول بكل ما فيه من مظاهر الوحشية والهمجية والقسوة
والحق للقوة - كلمة قالها بسمارك الألماني رجل الدم والحديد. ولو أن النصر لم يعقد بلوائه في حروبه مع الدانمارك والنمسا وفرنسا لنادى بأن الحق فوق القوة. ولو أن القوة حالت بين هتلر وبين أن يزدرد النمسا، ويثني على ازدرادها بتشيكوسلوفاكيا لملأ فمه بكلمات العدالة والحق والمساواة والحرية
ولكن نيتشه، رسول القوة، يتفرد بأمور: منها أنه صبغ الدين الجديد بالصبغة الفلسفسة، ورسم له الحدود والمعالم، ودعمه بأسانيد الواقع والتاريخ. ولعله يتميز بين جبابرة العقول وحملة لواء الفكر الإنساني، بصراحته الوحشية التي مزقت قناع الرياء عن وجه الإنسان
ولا نحسب أن مفكراً طبع العصر الحديث، في الغرب، بطابعه الفكري، مثل نيتشه. وإذا كان ماكيافيللي أستاذ كثير من السياسيين، فإن نيتشه أستاذ الدكتاتوريين، وخاصة زعيم النازية
نعم، هو ملهم النازيين ومهبط وحيهم، هتف بدين القوة والسلطان، وتلقف زعماء ألمانيا الحديثة تعاليمه، فأفرغوها في قوالب التطبيق العملي، غير متأثمين ولا متحرجين، إذا كان تطبيقها يحرج شعور العدالة، أو يثير الضمير الإنساني
كان صاحب دعوة القوة يحمل على الديمقراطية حملاته الشعواء بدعوى أنها من أقوى