للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بحث في الإيمان]

للأستاذ علي الطنطاوي

إلى الأخ البغدادي الذي كتب إلي أمس

كتبت إلي تسألني عن الإيمان، وتريد دليلاً عقلياً على صفات الله السمعية، وصورة حسية لما خبر به من المغيبات كالجنة والنار، والجن والملائكة، حتى لكأنك تراها بعينك، وتعرض للقضاء والقدر وتسرد شبهاً عرضت لك تطلب مني ردها، إلى آخر ما ذكرت في كتابك من مسائل تنوء بها أكبر الأدمغة البشرية. وتعجز عن حلها العقول العظيمة، بَلْهَ عقل مثلي ودماغه. من أجل ذلك أزمعت السكوت عن الجواب، ثم بدا لي فرأيت الكلام في هذه المسألة واجباً. لأن معرفة الله أول مطالب الحياة، وأسمى غاية لوجود البشر، ولأن الشباب في حاجة إلى مثل هذا البحث؛ ثم إن البحث في ذاته لذيذ ممتع. فأقدمت على فتح بابه، وذكرت ما ألهمته فيه.

المعارف البشرية

أورد النسفي رحمه الله في أول عقائده هذه الكلمة الجامعة قال: (حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق وأسباب العلم كثيرة: الحواس السليمة، والعقل، وخبر الصادق المعصوم) أي أن المعارف البشرية إما أن تكون مشاهدة محسة نراها ونسمعها، وإما أن تكون معقولة ندركها بالفكر والقياس الصحيح، وإما أن تكون مغيبة علمنا بها من طريق الوحي. أما المحسنات فيتساوى فيها الناس والحيوان. وليس في إدراكها ميزة للناس، وإن كان أفقها عند الناس أوسع. وإدراكهم لها أرقى. وأما المعقولات فيستوي فيها الناس كلهم من كل ذي عقل سليم. وأما الإيمان بالمغيبات فهي الميزة التي تمتاز بها عقول المؤمنين الذين يشاركون الناس في الحس والتفكير، ويختصون دونهم بالإيمان.

وسنحاول أن ندرس فيما يلي قيمة كل مصدر من مصادر المعرفة الثلاثة.

الحواس

تستطيع أن تشك في كل شيء، ولكنك لا تستطيع أن تشك في شيء تراه أو تلمسه، لأن الحس أصح طرق المعرفة وأدناها، ولأنك إذا قلت: هذا الشيء (محسوس)، تكون قد

<<  <  ج:
ص:  >  >>