من مشكاة الطفولة اللاهية الغافلة كان قلبي الخلي يطل على قوافل الحياة فيراها ويحس بها غير ما يراها ويحس بها الآن، وكان إحساسه بها حينذاك إحساساً قوي الفطرة جامح الغفلة يبهره من قافلة الحياة تناسقها ومظاهرها غير مدرك سرها وجوهرها. وكان يرقبها طوال الأعوام الثلاثة عشر، حتى إذا ما تحول إحساسه بها إلى بعض إدراكه لها نشأ عن هذا الإدراك الحسي شعور جديد دفع به إلى السير مع القافلة، فاندمج فيها ولم يعد يراها، ولكنه بدأ يعرف سرها ويدرك مداها. وعندما أذكر أحلام الأعوام الثلاثة عشر، وقد كانت كلها أحلاماً، أشعر بالماضي يجذبني نحوه وبالحنين يعاودني إليه؛ فأحلام الصغار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بسبائك من الذهب، ولأحلام الكبار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بحبائل من النصب، ويا شد ما يهفو القلب إلى القفزات المرحة في رحبة المدرسة، وإلى تلك الدمى المتراصة في الدار من مختلف اللعب، وإلى فساتين الأعياد الزاهية الألوان؛ كل ذلك له أثر في القلب، لأنه بدء علوقه وأول صباباته. فلما شب عن طوقه وبارح مشكاته أصبحت له صبابات غير تلك الصبابات، وأماني وأحلام غير تلك الأماني والأحلام، بذل فيها من دمه ونعيمه الشيء الكثير، فثار على الحياة يثأر لدمه الغالي ونعيمه الذاهب؛ وللقلب حين يثور فلسفة يحتار في غاياتها العقل؛ وللقلب حين يثور أفانين يقصر عن إدراكها الفكر، ولكنها فلسفات وأفانين هي أقرب إلى السماء منها إلى الأرض؛ تدمجه في الروح الخالص فلا يشعر بما على الأرض من مادة طاغية، ولا يحس من بهرج الحياة وظاهرها بسعادة خاوية. فهناؤه فوق المادة، ونعيمه موصول بالسماء، وبين الفينة والفينة يعاوده الحنين إلى ذكريات الطفولة وأحلامها، وإلى المشكاة وأيامها، فيخيل إليه أنه يستطيع أن يطل على الحياة كما كان يطل، وأن يرقب القافلة كما كان يرقب، ولكن هيهات!