لعل الملوك والخلفاء من أشد الناس حرصاً على انتقاء ما لذّ من الطعام وطاب، فهم يتخيرون اللذيذ من كل شيء، وما عليهم إن أتعبوا غيرهم، أو أنفقوا الأموال الطوال في سبيل ذلك.
والخلفاء العباسيون، كانوا يعنون بهذا الأمر كل العناية، وكانوا يحرصون على ألا يفوتهم من لذائذ المآكل والثمار شيء. فكانت هذه اللذائذ تحمل من الأقطار إلى قصورهم في بغداد ليتمتعوا بها، وكانوا يفرضون أن يحمل إليهم مع خراج كل بلد، ما حسن فيه من مأكل أو ثمر أو زهر. وهكذا كان يحمل مع خراج الري الرمان والخوخ المقدد، ومن أصبهان والموصل العسل والشمع، ومن الكوفة البنفسج، ومن جرجان النرجس، ومن الصيمرة النارنج، ومن طبرستان الأترج. وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز إلى الخليفة العنبر والزبيب، ومن الأهواز ثلاثون ألف رطل من السكر، ومن فارس ماء الورد والزبيب الأسود والرمان والسفرجل والتين، أما دمشق، فكانت ترسل إلى الخليفة التفاح، وكان المأمون معجباً به، يؤخذ إليه منه ثلاثون ألف تفاحة مع الخراج.
وكانوا إذا اشتهوا شيئاً ولم يكن له نصيب في الخراج، أرسلوا يطلبونه. فقد كانوا يطلبون ألوان اللحوم والطيور، ولو بعد مكانها، فتأتيهم على البريد. وينفقون في ذلك الأموال الكثيرة. وكل هذا ليمتع الخليفة بالطيبات من المآكل والأثمار.
ومظهر هام من مظاهر هذه العناية يتجلى لنا، عند بعض الخلفاء، بالألوان الكثيرة التي كانت تهيأ له من الطعام. وقد كان عدد هذه الألوان يبلغ مبلغاً، ما سمع ولا عرف. حدث جعفر بن محمد - وكان أحد العشرة اللذين أختارهم المأمون لمجالسته ومحادثته من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم - قال: تغدينا يوماً عنده - أي عند المأمون - فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون. وكلما وضع لون، نظر إليه المأمون فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا.
ومهما يكن أمر هذا الظن الذي ظنه هذا الفقيه، فلا بد أن يكون عدد ألوان الطعام كبيراً.