هذه الحياة الدنيا عجيبة، فهي ما تزال تنشئ السم وتدس فيه الترياق، وتخلق السقم وبين طياته عناصر الشفاء. وما تزال تخيل لأبنائها السذج أنها موشكة على التلف مشرفة على البوار، فتثير فيهم قواهم الكامنة، وتستحث منهم هممهم الراكدة؛ ثم إذا هي تنصل من الداء، وتنهض من الكبوة، أشد ما تكون عافية، وأوفر ما تكون قوة؛ كصحو الطبيعة غب الوابل المنهمر، وصفو الكون بعد العاصفة الهوجاء! وإن من عجائب هذه الحياة أن تكون للسلم ويلات، ربما فاقت ويلات الحرب، بل هي تفوقها بكل تأكيد. ألا وإن من عجائبها أن تجعل الحرب ترياقاً لسموم السلام!
وما يخالجني الشك في أن فرنسا كسبت بهذه الهزيمة أضعاف ما كسبت غداة الهدنة بالنصر. ومهما بدا هذا القول عجيباً فإنه بالتصديق. ومن شاء أن يختبر صدقه فلينظر فيما كانت عليه فرنسا قبل الحرب، وما يلوح أنها ستكون عليه بعدها
لقد عبث النصر السابق والرخاء الغابر بفرنسا عبثاً شديداً، فلقد غدت قبل الهزيمة شيعاً وأحزاباً لا حصر لها، ولا تدرك أسماؤها فضلاً على مبادئها، بل أهوائها. ولقد كان التشعب السياسي والحزبي أهون ما نكبت به فرنسا، فلقد أصابها ما يصيب الأمم المنحلة من تدهور خلقي، إباحية، وبيئة، وفردية مقيتة، واستهتار معيب؛ ولقد نُسيت فرنسا ليُذكر الفرنسيّ! وبات كل فرد أمة، فكل فرد وشأنه، وكل امرئ ولذائذه، وكل نفس وشهواتها، وعاد الأخذ شهياً والمنح مريراً وغلبت الرفاهة وحب الراحة على الجميع
هذه فرنسا التي هزمت في أسبوعين، وكانت ستهزم نفسها لو لم يهزمها الجرمان، وكانت ستخذل قضيتها لو لم تخذل في الميدان. . .
وهذه - ولا شك - بعض ويلات السلام، أو الاطمئنان إلى السلام! أما فرنسا بعد الهزيمة، فها هي ذي مغلوبة على أمرها ولكنها أشد حيوية وأكثر يقظة؛ فلقد تنبهت فيها كل حاسة؛ ولقد وحدها الخطر وهي ممزقة كل ممزق - والجسم الحي يتنبه ليدفع الخطر -؛ وأخذ كل فريق يعمل على طريقته، ولكن لفرنسا، لفرنسا وحدها لا لنفسه أو حزبه، ولا لمطامعه ولذائذه