(لا يحسبن قارئ المقال أننا أردنا أن نعطل حدود الشرائع
بدرسنا للعاطفة الإنسانية السامية في قلب الرسول، وإنما هو
بحث جرى على القلم جواباً لمن يزعم أن تعاليم الإسلام تعاليم
صارمة قاهرة لا تفيض - كالشريعة المسيحية - رحمة ومحبة
وحناناً)
(خ، هـ)
لا تزال علة الآثمين الخارجين على حدود الشرائع علة مستحكمة، لا يبت فريق حتى يهب إلى نقضها فريق. وكلا الفريقين له الحجة الساطعة. فمن الشرائع ما يرى في الأثيم العدو للإنسانية، والمريض الذي يخشى انتقال جراثيمه إلى غيره، لأن الأمراض النفسية حكم أكثرها كحكم الأمراض السارية تعصف بالأجساد عصفاً. وهذا المريض - في حكمها - لا يرجى شفاؤه، وإن فكرة الإجهاز عليه هي خير فكرة تتقي بها منه!
وقد تفننت الشرائع الحديثة في تعيين هؤلاء الآثمين والمجرمين وفي عزلهم عن طبقات الناس. ومن الشرائع ما تنظر إلى هؤلاء بعطف ورحمة. لا تنظر إلى الإثم - كالكل في الإثم - وإنما تنظر إلى الظروف التي صاحبته، والعوامل التي ساعدت على خلقه. وهي بعد هذا كله لا ترى في الآثم إلا إنساناً، جبل على طينة الإنسان، يخطئ ويصيب، ويفعل الشر ويصنع الخير. هذه الشرائع التي غلبت العاطفة الإنسانية على كل عاطفة، واستمسكت بالمبدأ الإنساني الذي يعلو على مصطلحات الخير والشر. وهذه فكرة تطير بجناحين من السمو والعلو. ولكن علماء القانون لا يعتقدون بهذه الفكرة المجنحة لأنها بغير حدود، وتنتشر على أبعاد دونها أبعاد الفضاء. وهم يريدون أن يحددوا لكل موقف شأنه، فإذا سرق السارق فما عسى يكون جزاؤه؟ وإذا زنى الزاني فما عسى يعامل به؟ مثل هذه