صوت الحق ولا يصغي إلا لندائه. ولو تأملنا لوجدنا أنا في مرحلة اليقين أقوياء ضعفاء؛ أقوياء لأنا نحس بأنا نفذنا إلى قلب الأشياء ووصلنا إلى قمة العالم وتجردنا من قيود المادة والزمن واتصلنا بكل ما هو باق أزلي، وضعفاء لأن جلال الحقيقة التي نعتنقها أسكت كل صوت فينا، فألغى هواجسنا وخواطرنا، وقضى على ميولنا وأهوائنا، وأضعف شخصيتنا أو محاها بحيث نصبح ولغة العالم والإنسانية جمعاء ديدننا وشعارنا
هذا هو اليقين في ظواهره وأثره وشدته وبأسه. فهو إذن العقيدة في أكمل صورها والإيمان في أسمى أشكاله. وكثيراً ما حاول بعض الباحثين فصل اليقين من العقيدة، والمباعدة بين العلم والدين، ووضع حاجز بين العقل والعاطفة؛ إلا أن اليقين لا يتحقق إلا بعد عقيدة سابقة، والعقيدة إن سمت وكملت أضحت يقيناً. والعلم برهن غير مرة على أن له نطاقاً لا يتعداه وحدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها؛ فليدع الدين يتكلم فيما أعد له ويتصرف في دائرته. والإنسان عقل وقلب وتفكير وعاطفة؛ ومن العبث أن يهمل أحد هذين الجانبين أو يلغى، فإن ذلك خروج على الطبيعة وعكس لنظام الأشياء. وليس من عار أن يكون في الأديان قدر كبير يرضى العواطف الإنسانية، بل العار كله أن تخلو من ذلك.