للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويعتقد في السحرة والمشعوذين والجن والشياطين. ولا تبدأ حيرة الشك لديه إلا حين يصطدم عالم الفكر بعالم الواقع، ويتعارض أمامه أمران كان يؤمن من قبل بثبوتهما. فترتاب نفسه وتشعر بشيء من الخيبة لم تكن تتوقعه. ويظهر أن الشك كان في أول أمره ظاهرة عاطفية قبل أن يكون مناقشة عقلية وحساباً منطقياً. وليس الشك شراً كله، بل قدر منه مدعاة البحث ومفتاح الحقيقة، وقديما قالوا: الشك مبدأ الحكمة ومدرسة الحقيقة. وقد استطاع سقراط بين الإغريق بشيء من الشك التهكمي أن يستخرج المعارف من نفوس محدثيه ومناقشيه. ثم جاء ديكارت في التاريخ الحديث فاتخذ من الشك طريقة فلسفية ومبدأ علمياً. للشك حكمته ومنفعته، فهو ينبه الفلسفة إلى أخطائها ويقف العقل عند حده ويرشده إلى نقصه. غير أن قيمة الشك في طريقة استعماله ووضعه في موضعه. فالشك في كل شيء قضاء على المعرفة من أساسها وهدم للحقائق على اختلافها. وقبول المعلومات من غير بحث وتمحيص انقياد أعمى واستسلام مرذول وضعف في التفكير. وغني عن البيان أن الشك ضرب من الحرية واستقلال الرأي. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الشكاك القدامى والمحدثين لفتوا نظر الإنسانية إلى أخطائها الشائعة وكشفوا الغطاء عن كثير من أباطيلها المسلمة. وكل ما يؤخذ عليهم أنهم أرسلوا للشك العنان، وجالوا به في كل ميدان، فقضوا على ما كان فيهم من عبقرية، وأصبح شكهم داء بدل أن يكون دواء، وهدموا بالشمال ما بنوه باليمين. وليس في الشك المقبول امتهان للحقيقة أو اعتداء عليها، بل هو اعتداد بها وتقدير لها وجد في طلبها. حقاً إن الشك حيرة وحمى قد تخشى على النفس مغبتها؛ بيد أنه قل أن يقدر اليقين قدره من لم يغرق في بحار الشك قليلاً. والضال إذا وجد الطريق كان له بهذا فرحة تملأ العين والقلب

اليقين كلمة عذبة الجرس حلوة الرنين سامية المعنى رفيعة المداول؛ تطرب الأذان لسماعها، وتتوق النفس دائماً إلى أن تحظى بحقيقتها. ينشده العالم في بحثه، ويرمي إليه الفيلسوف في درسه، كلاهما يبغي أن يصل إلى الحقيقة الثابتة التي يذعن لها الجميع في مختلف الظروف والأمكنة. وإذا كان الشك اضطراباً وحيرة فاليقين هدوء وطمأنينة. هدوء لأنه راحة بعد عناء. ووصول بعد مجهود، وطمأنينة لأنه حصن حصين، وركن أمين؛ وكيف لا وهو قوة تستمد سلطانها من نور الحقيقة، وحال يشعر المرء فيها بأنه لا يسمع إلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>