كم كان نجيب أفندي وفياً لزوجه براً بأسرته؛ إنه لم يكن يسمح لنفسه أن يقضي خارج البيت قليلاً من الوقت لغير عمل؛ فأيان تلتمسه لا تجده إلا في الديوان أو في البيت، وفي فترات قليلة كان يجلس إلى أصحابه في النادي يستمع إليهم ويستمعون إليه، ولكنه كان حريصاً كل الحرص على الموعد الذي حدده لعودته إلى حيث يجد في الأنس بزوجه وولديه ما لا يجد جزءاً منه في مكان آخر. لقد كان من طراز غير طراز هؤلاء الكثرة من الرجال الذين لا يعرفون البيت إلا كما يعرفون الفندق أو المطعم، ولا يفهمون من واجبات الأسرة إلا كما يفهم المدين ألح عليه دائنه، ولا من حقوق الزوجة إلا ما تلهمه الغريزة، ولا من بر الوالد أكثر مما يفهم مدير ملجأ اليتامى. .!
ولم يكن يعجب لشيء أو يرثي لأحد عجبه ورثاءه لهؤلاء الذين لا ينفكون يصرحون بالشكوى والألم من متاعب الزوجية وقيود الزواج؛ بل لقد كان يسيء الظن بهؤلاء الشاكين ويرميهم بالحمق وسوء التدبير في سياسة بيوتهم أكثر مما يرثى لهم ويعجب.
ولكن هذه السعادة التي كانت تشرق عليه بالبشر والإيناس، وتعمر صدره بالبهجة وحب الحياة - لم تلبث أن زالت؛ وتبدل البيت من أنسه وحشة، وتحولت ضحكات الفرح والمسرة فيه إلى همسات حزينة باكية، وخيم الظلام الموحش الرهيب. . لقد ماتت زوجه. .!
مَن لهذين الصغيرين يرعاهما ببره، ويسبغ عليهما من عطفه وحنانه ما يعوض عليهما بعض ما فقداه من بر الأم وحنانها؛ مَن لهذه الصغيرة (كريمة) يرتب شعرها ويغني لها في الصباح تلك الأغنية الجميلة التي كانت تدللها بها أمها وهي توقظها في رفق لتذهب مبكرة إلى المدرسة الإلزامية القريبة. ومَن للصغير (صلاح) وما تزال الأرض تجاذبه فما يمشي خطوات إلا معتمداً على الحائط، ثم يتم سيره حبواً على الأربع؛ ومن ذا يقطف من ثغره الزهرة الناظرة حين يبتسم، ويطبع على خده القبلة الناعمة حين يبكي؛ بل من ذا يجيبه حين يحرك شفتيه بالكلمة العزيزة التي لا يعرف غيرها:(أمي!) وقد ماتت أمه. ومن ذا