فرغت من قراءة هذا الكتاب التحليلي المحكم، كما يفرغ الإنسان من شهود فلم تاريخي متقن، وبدل أن أرفع يدي لأصفق، أخذت قلمي لأكتب. شبهت هذا الكتاب بالفلم لأنه أوسع من الرواية، وأوضح من القصة، وأروع من السيرة؛ ففيه البيئة والمكان، وفيه الصور والألوان، وفيه الوقائع التي تتكلم، والخوالج التي تتجسم، والدقائق التي تسفر، والفروق التي تتضح. وتجلية الحياة المصرية السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر على هذه الصورة الرائعة البارعة الملهمة لا تتهيأ إلا لأمثال الأستاذ فريد ممن توفروا على اكتناه الحق في هذا العهد المجهول المظلوم، وأوتوا مع ذلك البصيرة التاريخية التي لا تطيش، والضمير العلمي الذي لا يخدع، والقلم الفني الذي لا يزلُّ. والأستاذ فريد من كتابنا القلائل الذين لا يخرجون ما ينتجون إلا عن اختصاص محيط ودرس شامل وروية صادقة وضرورة حافزة وغرض نبيل. وقد عهده الناس في تأليفه محققاً، وفي ترجمته أميناً، وفي قصصه مجوداً، وفي شعره مجدداً، وفي أبحاثه حجة. وهو بعد زيدان زعيم المذهب التاريخي في القصة على نحو ما كان (ولتر سكوت)؛ وحبه الخالص لمصر صرف هواء وجهده إلى تاريخها القديم والحديث فخدمه خدمة جلى وغرسه في قلوب النشء غرساً مثمراً بالتعليم في أسمى درجاته، وبالتأليف في شتى فنونه؛ واعتزازه الصادق باستقلال وطنه وجّه نشاطه إلى ذلك العصر الذي خلص فيه سلطان مصر إلى أبنائها الخلّص الذين وُلدوا فيها، ونُشّئوا لها، وذادوا عن حياضها المطهرة طمع الواغل الدخيل ذياد الأحرار البررة؛ واتصافه بالخلق النبيل والطبع الحر جعله يغرم فيه بالشخصيات الكريمة الحرة التي جلاها لقراء (الرسالة) في مناسبات شتى، ومنها هذه الشخصية العزيزة السيدة: شخصية السيد عمر مكرم التي أفرد لها هذا الكتاب الذي نتحدث اليوم عنه.
(سيرة السيد عمر مكرم) صورة فنية مشرقة لمصر في القرن الثامن عشر، تقرأها فكأنك تشاهده، وتستبطنها فكأنك تعيش فيه؛ برز فيها وجه هذا الرجل الأبي صادق النظر أشم الأنف ناطق الملامح، فجعله فريد مثالاً للخلق المصري المحض في ذلك العهد، ومثلاً