اعلم - أعزّك الله - أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق، ولا قيداً في الرجل، وليست مقايضة أو مباددة، آخذ فيها الوظيفة باليمين، لأعطى الوجدان بالشمال؛ ولو أنها كانت كذلك، لعزفت عنها وأجوبتها، ونفضت يدي منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كرّة أخرى، أو أقضي وأسرتي خمصا، على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير. . . وعليّ أن أكفر بالفضيلة، وأومن بالمصلحة، فأزن كلّ شيء في الدنيا بميزان صنجاته الدنانير، وأبصر كلّ ما في الكون من ثقب القرش، وأفكر إذ أفكر بعقلي الذي في كيس نقودي، لا بعقلي الذي في رأسي، فاختزل المنطق كله في قضية واحدة، هي الأولى والأخرى، وهي الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الكتاب المعجز الذي لا يُفرط فيه من شيء، ولا يعجزه شيء، فيكون المنطق كله هذه القضية: تحصيل المال واجب، وفي هذا الأمر تحصيل مال، فهذا الأمر واجب. . وضَع مكان (هذا الأمر) ما تشاء من أفعال اللؤم والخسّة، والكذب والنّذُولة، والضّعة والفُسُولة، تنتظم القضية وتستقم، وتصح وتطرد. . . . . ولا يبقى في الدنيا رديء ولا فاسد، ولا منكر، ما دام معه المال!
لا - يا سيدي - لست أسلك هذه الطريق التي لا أزال أحذر منها من لم يسلكها، وأصرف عنها سالكيها، وإن كان السالكوها هم الكثرة من موظفينا وعلمائنا، ومن كل ذي وظيفة، أو صاحب صلة بالحكومة، حتى أن الرجل من هؤلاء ليأتي الأمر يعترف أنه مؤذٍ للأمة، منافٍ للفضيلة، مناقضٌ للشرف، فيحتج له بأن مصلحته تقتضيه، ومعيشته تستلزمه، وأنه رجل (عاوز يعيش. .) ولا يعيش من لا يساير وينافق، ويذل ويتزَلَّف، لا يدري الجاهل أن المعيشة على الصَّعتر مع الشرف، خير من حياة النعيم والترف، من غير فضيلة ولا شرف!
ومن أنبأك - أعزّك الله - أن الموظف لا يحق له أن يفكر إلا بعقل رؤسائه، ولا يرى إلا بعين امرأته، فلا يحقق من الآراء ما أبطلوا، ولا يقبل ما ردّوا، ولا يوقر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوا حسناً، ولا ما كتموا ظاهراً، ولا ما صغّروا كبيراً، ولا ما عظموا حقيراً؟