للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الوحدة]

للدكتور إبراهيم مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

شبح يهولنا اسمه، ويزعجنا رسمه؛ مع أنا لو عرفناه لألفناه، ولو خبرناه لتعشقناه؛ ووحشة نفر منها فرارنا من الخطر الداهم، أو العدو المهاجم، ولو ثبتنا لها في صبر وجلد لكسبنا المعركة وأصبحنا بوحدتنا سعداء؛ وعزلة قد يضيق لها الصدر، وتنقبض النفس، ولكنها عادة لا يمكن أن تكتسب إلا بشيء من الدربة والمران؛ ورياضة لا تخلو من مجهود أو عناء. وكيف لا تكون مجهدة وهي تقف حجر عثرة في سبيل بعض الغرائز الكامنة، وتحرم الفرد من لذائذ المجتمع ومغرياته الخادعة، فتحول دون غريزة حب الاجتماع وسد حاجتها، وتعارض صلات القرابة والمودة في امتدادها وانبساطها؛ بيد أنها في كل هذه أشبه ما يكون بالدواء الممض يتعاطاه المريض لما يرجوه بعده من برء وشفاء

حقاً إن الوحدة طب للنفوس وعلاج للأرواح، نستطب بها من ويلات المجتمع وآلامه، فتقينا ولو زمناً لهيب الحقد والحسد وسموم القيل والقال، وتبعدنا ولو إلى حين عن مظاهر الشره والجشع وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فلا تقع العين على وجوه شاكية، ولا تسمع الأذن أصواتاً باكية، ولا يقر اللسان مكيدة، ولا تقاسم اليد في جريمة، ولا تسعى القدم إلى خطيئة. وقديماً قالوا تشفي الوحدة من المجتمع بقدر ما يشفي المجتمع من الوحدة. وبالوحدة نداوي كذلك أمراض القلب والروح ونعالج أنفسنا بأنفسنا، فنخرج من زمرة الأهل والأخوان وتيار الحياة الهائج المائج إلى حيث السكون والتأمل، ونبدد تلك السحب الكثيفة التي نسجتها الجمعية حولنا، والأضواء البراقة التي تعشى لها أبصارنا لنرى بعين الحقيقة والاعتبار. ولم تكن الوحدة عبادة إلا لأنها توبة وندم وتهذيب وتطهير

وقد عرفت لها الأديان هذه المنزلة فدعت إلى الخلوة والاعتكاف الذي لا يراد به مجرد أوراد تتلى أو أناشيد يترنم بها، بل يُقصد أن تُعرض صفحة الحياة على بساط البحث وتعقد محكمة الضمير في جو هادئ ساكن وتقضي بقضائها العادل إن بالبراءة أو الاتهام. وما أحوجنا إلى هذه الرقابة وهذا الحساب الدقيق دون انقطاع! ولكن جد الحياة ولهوها وحلاوة العيش ومرارته تصدفنا عن ذلك وتلقي بنا في بحر لجي لا سكون فيه ولا اطمئنان. ونحن

<<  <  ج:
ص:  >  >>