للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في الأقصر. . .]

لا تجد في معبد الأقصر ما تجد في معبد الكرنك من ذلك الاستغراق الذهني الذي يمحو الوجود من ناظرك، ويعفو الحاضر في خاطرك، ويحييك مع أمينوفيس ورمسيس في دهر واحد! فأن هذا المعبد يقع في جبهة المدينة ونزهة الناس فلا تنفك وأنت فيه بين نظرة خادعة من مفاتن النهر، وزفرة صادعة من بواخر كرك، ولفظة صاخبة من لغط المار؛ ولن تستطيع وعيناك تضطربان بين الهيكل والكنيسة والمسجد وقصر السلطان وونتر بلاس، ان تحصر ذهنك في موضع، وتقصر فكرك على موضوع. فكل صورة من هذه الصور الموائل يمثل فكرة وييسجل نهضة ويؤرخ حقبة؛ أما معبد الكرنك فظل بنجوة من تيار الزمن الجارف، ينعم بسكونه الشعري في اعتزاله، ويتمتع في جوه الفرعوني باستقلاله

فتننا سحر الأصيل عن شعر المعبد، فذهبنا فيي طريق السلطان حسين نشهد أروع مجالي الجمال في الطبيعة. ومن حدثك أن بلداً من بلاد الله غير مصر يتمتع في يناير بدفء يستجيش العرق والبهر، وضوء يغمر القلب والنظر، وصحو يدوم النهار والليل، فهو ولا ريب لم ير الأقصر! وأي منظر تألقت به قدرة الله، وتأنقت فيه يد الطبيعة، كمنظر الغروب في طيبة؟ فالشمس المصرية تغرب في جلال وراء الجبل، وأشعتها الفاترة قد تجمعت حولها من سهول الوادي، فلم يبق منها الا غرر تلمع في أجنحة الطير وسعف النخل ورؤس الهضاب، وشفقها الوهاج قد شب في أطراف السلسلة اللوبية حريقا بارد اللهيب ايذانا بالمغيب، والمشتون من سراة أوربا وأمريكا يطالعون في شرفات الفندق أجمل ما خطته يد البارئ المصور في صفحة الوجود، وأنا وأصدقائي الثلاثة نسير الهويني على الشاطئ الضاحك، يشيع في دمائنا مجد هذا الماضي، وفي أعصابنا عظمة هذا الوادي، وفي أخلاقنا صراحة هذا الجو، وفي مشاعرنا جمال هذه الطبيعة، فنكاد من فرط الزهو نقول لمن نلقى من السائحين االغربيين: نحن تلية هذا المجد، وصنيعة هذه الشمس، وصورة هذا الجمال، فهلا تروننا اخلص الناس جوهرا. واصدقهم مظهرا، وازكاهم أرومة؟

وكان حديثنا في هذه الساعة الجليلة نغمة منسجمة في هذا اللحن السماوي الذي تنشده الكائنات كل يوم عند الغروب، وما ظنك بحديث نقي الحواشي يشققه أستاذ في كلية الآدب، واستاذ في كلية العلوم، واستاذ في كلية الحقوق، وكاتب صغير من كتاب الرسالة؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>