شهدت الحرب العظمى - أو التي كنا نظنها العظمى - وهي التي قامت في سنة ١٩١٤، وهأنذا أشهد حرباً عظمى أخرى بعد خمس وعشرين سنة؛ فأنا في هذا من المخضرمين. ويبدو لي أن ألمانيا الهتلرية هي ألمانيا القيصرية، لم تتغير روحها ولا نزعاتها ولا وسائلها ولا أساليبها. فليس البوربون - ملوك فرنسا الذين عصفت بهم ثورتها هم وحدهم الذين لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً. وعجيب أن يكون هذا هو طراز الحكام في بلد من أرقى بلاد العالم وشعب من خير الشعوب ثقافة وأدباً وفناً وعلماً وفلسفة. ولا بد - كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد - أن يكون في هذا الشعب عيب يسمح بأن يكون هذا طراز حكامه الذي لا يكاد يختلف
وقد عانت ألمانيا أقسى ما يمكن أن تعانيه أمة من جراء ما حملت من تبعة الحرب العالمية السابقة وبقيت عشرين سنة تنوء تحت هذا العبء وتجاهد أن تطرحه، فكان المنتظر أن تتقي أن تحمل عبئاً آخر مثله، فإن العائد إلى الجريمة لا يحق له أن يتوقع العطف أو يعول على ما في قلوب الناس من الرحمة، ولكن حكام ألمانيا في هذا الزمان لا يجعلون بالهم إلى بل يقدمون على إثارة حرب عالمية بعد أن أعدوا عدتهم لها غير عابئين برأي العالم أو مبالين بما يجره عليهم من السخط والنقمة. وما من شك في أن الهر هتلر نهج نهجه هذا عن (عمد وسبق اصرر) كما يقولون رجال القانون. ومراميه كلها معروفة من كتابه (كفاحي). وخطته هي أن يعد لبلاده أقصى ما يستطيع من قوة، ثم يتجه إلى الشرق فيبسط سلطانه عليه، حتى إذا تم له ذلك ارتد إلى الغرب فرمى عليه ظله وأذله. ومع أن هذا معروف ولا خفاء به، نراه يتعجب لبريطانيا وفرنسا ماذا يعنيهما من شرق أوربا ولماذا تحاولان صده عن غايته فيه كأنهما لا تعلمان أنه منقلب عليهما بعد أن يفرغ من هذا الشرق.
وكما تجنت النمسا بتشجيع ألمانيا على الصرب في سنة ١٩١٤ تجنى هتلر في هذه الأيام على بولندة. فقد ادعت النمسا أن ولي عهدها إنما قتل في سراجيفو بتدبير الصربيين وإن