للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ذكرى المولد]

ذكرى مولد الرسول هي ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق؛ فكأن مولده كان البعث الأول الذي طهر النفس وعمر الدنيا وقرر الحق للإنسان، كما أن البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ الآخرة ويعلن الملك لله

كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادة، وعبودية الشهوة، وسلطان القوة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه؛ إنما كان حيواناً شهوته الغلب، مادياً غايته اللذة، أنانياً شريعته الهوى؛ ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وفي المادية حيث اتخذ إلهه من خشب أو حجر، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية الإملاق والضرر. فلما أتى النبي العربي فتح في غار حراء، باباً إلى السماء، تنزلت منه الملائكة والروح على هذا الهيكل المنحل والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة ومعنى الخلود وحقيقة الله. وحينئذ شعر سليل الأرض أن له أسباباً إلى السماوات رثت على طول غفلته، وأن له حياة خيراً من هذه الحياة استسّر علمها في جهالته؛ فتشوف إلى الأفق البعيد، واستشرق إلى السمت العالي، وأرسل نظره وراء النظر النبوي من فوق الجبل، في صمت حراء المفكر، وفي سكون الوادي الملهم، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق

كانت العقيدة قبل محمد أن تموت الروح أو يموت الجسم، وأن يحكم الله أو يحكم الإنسان، وأن يظهر الدين أو تظهر الدنيا، أما تقرير الصلة بين المعنى والذات، وبين المصباح والمشكاة، وبين الحياة الأولى والحياة الأخرى، وبين الإرادة السفلى والإرادة العليا، فذلك هو القصد الإلهي من رسالة محمد، والتنفيذ المحمدي لإرادة الله

وكان العالم قبل يوم محمد يرسف في عبودية عقلية تقتل التفكير، وعبودية جسمية تعقل التصرف؛ فلم يكن للأسرة نظام، ولا للقبيلة قانون، ولا للأمة دستور، ولا للعقيدة شريعة؛ إنما هو طغيان عاسف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة: فالأب يملك على بنيه الموت والحياة بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف، والملك يخضع نفوس الشعب باسم الدين، والكاهن ينسخ عقول الناس بقوة الجهل، والناس أجمعون عدا هؤلاء الأربعة أتباع وأوزاع وهمل

<<  <  ج:
ص:  >  >>