كنت يوماً بمكتب صحيفة (المحروسة) فلقيت وأنا خارج منه صاحبها الأستاذ الياس زيادة والد الآنسة (مي) رحمها الله وكان من عادته إذ لقيني أن يخاطبني باسم الأديب حسين فتوح، وإذا لقي الأستاذ فتوحا خاطبه باسمي ومشى معه أو معي مسافة يصحح فيها الاسم ويتلطف بالاعتذار ويتناول بعض الأحاديث العامة. . .
وجرى الحديث إلى مؤلفات الآنسة فقلت: إنها جديرة بان تفخر بها. إنها أعظم كاتبة في العربية
قال: ولك أن تقول: أعظم كاتب
يريد أن المفاضلة والتفضيل قد يجريان بينها وبين الكاتب ولا يقتصر على الكاتبات. فقلت مزكياً شهادته: ليس زهو الأب وحده بالذي يملي عليك هذه الشهادة. إن كثيرين غيرك ليسبقونك إليها
وكان الرجل على حق في فخره وتقديره. فمثل الآنسة (مي) من يفخر بها الآباء وغير الآباء من أبناء العربية، ومنزلتها في الثقافة وخدمة الرأي منزلة فضلى بين الكتاب والكواتب، وإن كنت قد أردت أنها أعظم كاتبات العربية جميعاً منذ عرفت لغتنا الكاتبات، ولم أرد أنها أعظم الكاتبات في عصرنا هذا دون غيره.
وما تتحدث به ممتع كالذي تكتبه بعد روية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء، ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث - ونعني به ملكة التوجيه وإدارة الأحاديث بين الجلساء المختلفين في الرأي والمزاج والمقام - فيكون في مجلسها عشرة: منهم الوزير والموظف الصغير، ومنهم المحافظ والمغالي بالتجديد، ومنهم المرح الثرثار والوقور المتزمت؛ فإذا دار الحديث بنهم أخذ كل منهم حصته على سنة المساواة والكرامة، وانفسح مجال القول لرأيه وللرأي الذي ينقضه ويشتد في نقضه، وأنتظم كل ذلك في رفق ومودة ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيهها وهي تنقل الأحاديث من متكلم إلى متكلم، ومن موضوع إلى موضوع، كأنها تتوجه بغير موجه وتنتقل بغير ناقل، وتلك غاية البراعة في هذا المقام.