لما تعب الناس من الوقوف على عتبة المهد، يقولون لكل قادم: من أين أتيت؟ والوقوف على عتبة اللحد، يقولون لكل ذاهب: إلى أين عزمت؟ ولم يعلموا من الأزل والأبد علماً، انصرفوا حين ذهب عنهم ذهول الطفولة إلى القنطرة والجسر الذي وجدوا أنفسهم فوقه، يتراكضون عليه ويبنون ويتزاحمون ويختصمون، واتخذوا لهم فلسفة هي وعي الحياة المادية فوق هذه القنطرة وحدها، واقتناء التجارب فيها، ومدوا علمهم في تراب الأرض ورحابها، وصار من طبيعة تفكير أكثرهم أنهم لا يسألون عن النبأ العظيم الذي ينبث في السماء والأرض، ويوجه الأفكار المخلصة للسؤال عنه
وأنهم ليمرقون من الدين الموروث لأنهم لم يحسوا حقيقة في الأزل والأبد بأنفسهم، ولم يدر بخواطرهم التفكير في هذا الوجود الغريب الذي ليس من طبيعته أن يكونوا هم منه.
إنهم لا يلتفتون للأزل إلا حين يطرق بابهم مولود قادم فيفرحون ويضحكون له، ولا يتيقظون للأبد إلا حين يودعهم مودع ميت فيبكون عليه.
هم يضحكون للأول لأنه يظهر لهم وينمو ويتفتح (فيقتنونه) ويملكونه كمتاع. . . وهم يبكون على الذاهب لأنه ينتزع منهم ويختفي، ويذكرهم باختفائهم وذهابهم إلى المصير المجهول فيخافون. . . هم لا يتيقظون إلا حين ظهور شيء أو اختفائه. أما استمراره وحركة حياته فلا يسترعيان انتباههم.
مهما فلسف الحسيون الماديون الذين لا يؤمنون بالغيب فيما قبل حياتهم وما بعدها، فإن العقل والطبع لا يقبلان أن يصدر هذا الكائن العظيم من غير مصدر أزلي عظيم، ولا أن يذهب إلى غير مصير أبدي عظيم، لأنه يوقن أن في ضمير الكون كله نسباً عريقاً خالداً!
همسات
هنا همس من عوامل الحياة ودورات الأحداث ودوافع الأرحام وهناك همس من عوامل الموت وسكون الأجداث وعقم الرجام والإنسان بينهما لا يسمع. . . لأنه لا يسمع إلا