هناك في أعماق الصحراء النائية اتخذت راعية الغنم مأواها؛ وعند شط البحر الزاخر بأمواج الأزل استقر بها المقام، حيث تختلط أضواء السماء بظلال الأجواء، ويبدو الفضاء كأنه مرآة لصورة اللانهاية
في هذه الدنيا المجهولة اتخذت الراعية سكنها أو معبدها كما نظن وهي لا تدري كيف استطاعت أن تعبر محيط الحياة المحدود لتعيش في كنف الوحشة الهائلة التي لا حد لها، وكيف تمكنت من تحكيم التقاليد المرعية لتقيم لنفسها حياة لا وزن لها ولا قيمة في نظر المجتمع الإنساني
كذلك لا تدري كيف تمكنت من مغالبة رغبات الشباب وأهواء الصبا ونزعت راضية إلى حياة التقشف والحرمان
وتحار أيضاً في تفهم حياتها بقدر حيرتها من خضوعها لقوة قاهرة مجهولة ساقتها دون وعي منها إلى هذه الحياة الجرداء
وهي تذكر ماضيها القريب بما يحمله من نعم الحياة ومباهج الترف والملذات وأطايب الوجود كأنه حلم مر بها لحظات من الزمن الحالم، ولكنها لا تذكره بحنين ولا تتوق إليه ولا تتمناه، وهي تتأمل نفسها في حاضرها فيحلو لها أن تشعر بقدرتها التي حملتها - وهي لم تتعد بعد العشرين من عمرها - إلى اجتياز عقبات الحياة، وقد عبرت محيط الوجود في غير خوف، وحطمت تقاليد المجتمع الغاشمة في غير لين. . .
إنها تضحية هائلة منها بلا ريب، إذ كيف يمكن لإنسانة رقيقة ناعمة شديدة الحساسية أن تعيش في دنيا موحشة مليئة بالمخاوف والأوهام! إنها تشعر بذلك، ولكنها تعرف أيضاً أن الوحشة الهائلة والخوف المروع والسكون الرهيب أهون من أباطيل المدنية وتهاويل الجموع ومساوئ البشر، وأقل خطراً من محن التقاليد وتعسف البيئة الحاكمة!!!
لذلك ارتضت حياة الحرمان قانعة؛ ومع أن ليل الصحراء المروع كان يملأ جوانب نفسها رهبة، فإنها كانت تقتل الخوف بأحلامها السانحة. . .