للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[طرائف من العصر المملوكي:]

الحركة العلمية

للأستاذ محمود رزق سليم

جميل بنا أن نعني بدراسة تاريخ مصر، ونتعرف إلى نواحيه المختلفة، لنشهد ما قدمه بنوها في أجيالهم المتعاقبة من جهود في مضمار العلم والأدب، ولنعرف مكاننا من المدينة، وموقفنا من الحضارة الفكرية. فان مصر في عصورها المتعددة كانت تشترك باستمرار وبرغبة ذاتية في بناء المدينة والحضارة، وتسعى دائبة لرفع لوائهما ونشر سلطانهما.

والعصر الذي نحن بصدده، عصر فريد من عصور مصر، وبخاصة في اتجاهاته العلمية، وهو لذلك جدير بالبحث والتمحيص اكثر مما بحث ومحص. بل لا أغلو إذا قلت أن الغموض لا يزال يكتفه من نواح عدة. بل لا تزال الفكرة المركزة في أذهان كثير من الأدباء عنه، مشوهة ظالمة. ولذلك يتأبى بعضهم على البحث فيه وتمحيص نواحيه. مع أن أبناءه حملوا من أمانة العلم والأدب ما يئود. ألقته المقادير على كواهلهم إلقاء فحملوا الأمانة وأدوا الرسالة، صابرين في الحمل، محسنين في الأداء.

نهضت بغداد من قبل، برسالة العلم، والأدب زهاء خمسة قرون وكانت - في الجملة - شمسا للبلاد الإسلامية شرقيها وغربيها تستضئ بهديها. وتسير على قبس منها. فلما دهمها التتار عام ٦٥٦هـ، وأزالوا خلافتها، ونكلوا بأبنائها وعبثوا بمؤلفاتها، ضاعت بذلك ثمار كثيرة من ثمار هذه القرون الخمسة، ووقفت بها رحى العلوم والآداب إلا لماما. هنا لم تجد القاهرة بداً من الظهور في الميدان، أكثر مما كانت ظاهرة، وتقدمت لحمل أمانة العلم والأدب برغبة وشجاعة. ولولا تقدمها لخبا الزناد وكبا الجواد، وانقطعت سلسلة العلوم والآداب الإسلامية، وتوارت عن الأنظار أمداً طويلا.

وقد هيأ الله للقاهرة من الأسباب ما عاونها على بلوغ غايتها. فقد كانت حينذاك عاصمة لأقوى مملكة إسلامية، ورزقت ملوكا أحسوا أن عليهم واجب حماية الدين والحرص على بلاد المسلمين. فدافعوا عنها أعداءها، ووطئوا للعلماء أكتافهم، ورحبوا بالقادمين منهم إلى مصر. وأغرى العلماء ما في مصر من خير وكرم وحسن وفادة وطيب لقاء. فوفدوا إليها تباعا من كل فج، واتخذها بعضهم دار مقام، حتى أصبحت منتدى العرب وحج المسلمين،

<<  <  ج:
ص:  >  >>