الأمر بيننا وبين الإنجليز يجل عن الكلام والكتابة وما جدوى اللسان العربي في السمع الأعجم؟ وما غناء القلم الأجوف في الفؤاد المصمت؟ هذه دماؤنا تهرق، وأرواحنا تزهق، وأرزاقنا تنهب، وشوكتنا تستلان، وكرامتنا تمتهن، وعزتنا تستذل، وأرضنا تحتل، فهل يدفع عنا بعض أولئك أن تخطب حتى يجف الريق، وأن نكتب حتى ينفد المداد، وأن نحتج حتى تنقطع الحجج؟ إن الشعب الذي لا يقابل التعدي إلا بالاحتجاج، ولا يعارض التحدي إلا بالشكوى، ساقط من حساب هيئة الأمم المتحدة، لا تقيم له وزناً، ولا تقدر له قيمة
إن الإنجليز في تاريخهم المظلم المجرم لم يصيخوا إلى صوت الضمير، ولم يحفلوا بشرف الوفاء؛ إنما هم قوم نفسيون عمليون لا يقدمون غير المنفعة ولا يسلمون إلا بالواقع. فإذا وصفناهم بما ميزهم به الله من نذالة النفس وسفالة الطبع وبلادة الحس ولؤم السياسة وخبث النية، قالوا في صفاقة الخنزير ودناءة الكلب: ليس هذا في الموضوع! أجيبوا عن العمل بالعمل، وردوا على القوة بالقوة!
كنت في غلواء الشبيبة حين غضبت مصر غضبتها الأولى على هؤلاء البرابرة الحمر سنة ١٩١٩؛ وكنت يومئذ مدرساً بالمدرسة الإعدادية الثانوية؛ والإعدادية والحقوق كانتا أول المدارس التي أيقضت وعي الأمة، وأوقدت نار الثورة، وقادت كتائب الجهاد، ومنهما تألفت اللجنة التنفيذية للطلبة. وكانت الحال التي أجدَّنها الحماية المفروضة تقتضي الكلام والكتابة. كان السلطان والحكم والجيش والشرطة والصحافة في أيدي الإنجليز، فلم يكن لنا من سبيل بين الضغط والقهر والإرهاب إلا أن نجتمع في المساجد والمعاهد نقول في العلن ما لا ينشر، ونكتب في السر ما لا يقال. وكان نصيبي من الجهاد المقدس أن أحبر المنشورات السرية لمن يوزع؛ وأن أحرر الخطب العلنية لمن يلقى. ثم زادني الله نفساً في أجلي فأنا أشهد اليوم غضبتنا الثانية تتسعر في الشباب والشيب، وتتنمر في الشعب والحكومة، وتتوغر في المدن والريف، فلم أجد حاجة إلى أن أقول، ولا ضرورة إلى أن أكتب. وماذا يقول القائل والوعي يقظان والرأي جميع؟ وماذا يكتب الكاتب والشعور محتدم والعزم راسخ؟ كل يد تطلب السلاح، وكل نفس ترجوا التضحية! حتى أنا وقد نفيت على الستين أصبحت أجد القلم في يدي هناءة لا تنفع، والكلام على لساني هراء لا يفيد. إنما أود - وما تغني الودادة - لو أكتب بالسنان وأتكلم بالمدفع!