للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في بلاط الخلفاء]

بين الشعبي وعبد الملك

للأستاذ علي الجندي

قضى عبد الملك بن مروان شطراً من خلافته في رتق ألفتوق وسدِّ الثُّلم والقضاء على منافسيه والخوارج عليه، فبلغ من ذلك ما أراد بعد أن خاض أهوالاً تشيب لها ناصية الطفل، واضطلع بأعباء تنوء بها الجبال، فعدّ بحق رجل الأمويين، ومر بي ملكهم ومؤثّل دولتهم. ولم يَعْد الصواب من وازن بينه وبين معاوية فقال: معاوية احلم، وعبد الملك أحزم. ولم يَغْل عبد الملك في وصف نفسه من خطبة له: أيها الناس، والله ما أنا بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)؛ فمن قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا!

والآن تحتويه دمشق الفيحاء، وقد اتسق له الأمر، وصافحه الإقبال، ونفض عن كاهله غبار الحروب، وتكفل له طاغية ثقف وجبّار العرب بقمع أهل الفساد والشَّغب، والضرب على يد الأسود والأحمر على السواء! فكيف يقضي أوقات الفراغ التي انفسحت أمامه؟ وبأي الوسائل يروّح نفسه، ويدخل عليها البهجة والمسرة؟

لم يكن عبد الملك مُعَنَّى بالنساء، ولا منهوماً بالشراب، ولا مستهتراً بالسماع، ولا موكلا بالصيد والقنص، حتى يلتمس المتعة في ذلك؛ ولكنه كان الخليفة جاداً زَميتاً وقوراً. وكان قبل الخلافة أزهد شباب قريش وأورعهم حتى لقّب بحمامة المسجد، كما كان يُقْرن في الفقه بسعيد بن المسيّب. أما روايته للأخبار، وحفظه للشعر، وبصره بالنقد وذرابة لسانه وسحر منطقه، وثقوب ذهنه، ووثاقة عقله، فقد أربى من ذلك على الغاية، ولعل التاريخ الأدبي لم يعن بالتحدث عن خليفة في الإسلام عنايته بعبد الملك والرشيد

فنُّ واحد من اللذات إذن يمكن أن يستهوي هذا الخليفة العالم الأديب، ويساوق طبيعته السامية. فن لا يقدره قدره إلا أصحاب المواهب المصقولة، والحسّ المرهف، والعقل المثقف، والذوق السليم، وهو محادثة الرجال ذوي العقول ومجاذبتهم طرائف الأخبار وبدائع الأسمار

وقد نوه الحكماء بهذه المتعة العقلية الرفيعة، فقالوا: محادثة الرجال تلقيح لألبابها. وأشاد بها

<<  <  ج:
ص:  >  >>