لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحداً منهم كان يستطيع إلا يكون شاعراً لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلّة. وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه. ولست أجد مثلاً اضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نؤاس في الغابرين واحمد شوقي في المحدثين واغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر عليه على صرفه عنه أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به إلا برياضة ومطاولة وجهد.
هؤلاء يطلبهم الشعر اكثر مما يرتصدون له، ويتجردون في إصابته.
وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم انه لو كان رزق اعظم حظ من العزم والقوة والجبروت ما كان ليقوي على كتم شاعريته الفائضة الجياشة وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!. تقرا شعر شوقي فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان. أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش!. . .
والواقع الذي لا يتداخله الشك إن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفاً مختل الأعصاب من أول نشأته. فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر لأنه لا يكلفه ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه ولا يرهف في ذاك حساً ولا يحد عصباً، إنما هو الينبوع ينبثق فيجرى الماء دفقاً ما يحتاج إلى متح ماتح.
نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في مديح، أو رثاء تهنئه، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى بداً من القول فيها. على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما طلبه، حتى تتحرك شاعريته، فتجرّه عما هو بسبيله جراً، وتملى عليه هي ما تشاء اكثر مما يملى عليها هو ما يريد ولست اطلب في هذا دليلا ابلغ من أن شوقي لم يمدح أحداً قدر ما مدح سمو الخديوي السابق. على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت سوية