للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[قصة]

ومن يرقيه؟

للآنسة سهير القلماوي

في أيام عاشوراء كان قد اعتاد أن يجوب الطرق صباحاً منذ مطلع الفجر مناديا بصوته العذب العميق: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا محمد من العين. . .) وكان يحمل فوق رأسه مقداراً من مساحيق مختلفة الألوان والأصناف. كان الرجل فوق الأربعين، وسيم الطلعة، قوي البنية،؛ وكان أعذب ما فيه الصوت الحنون العميق المؤثر الذي يرسله كل صباح فيمتزج بنسيم الفجر ونور الشمس الباهت الرفيق، فيوقظ النيام أجمل يقظة وألذها. لم تكن هذه حرفته بالطبع، فقد طول العام يبيع الفواكه، إما في محل لقريب له، وإما سائرا هكذا في شوارع القاهرة؛ ولكنه اعتاد منذ أعوام عديدة أن يطوف هذه العشرة الأيام الأولى من العام الهجري وعلى رأسه هذه المساحيق ليرقي بها من يخاف شر العين والحسد.

كان الرجل يؤمن أشد الإيمان بالحسد وشر الحسد، أليس قد ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم؟ ألم يأمر الله نبيه الكريم أن يقول (أعوذ برب الفلق. . . ومن شر حاسدٍ إذا حسد) ألم يرو لنا كيف رقت حليمة النبي محمداً من (أعين) الحساد؟ أليس في الحياة اليومية ما يثبت لنا شر هذا الحسد؟ كانت لأخته طفلة جميلة، وكانت تتركها دائما قذرة الملابس وسخة الوجه لا يكاد يبين منها إلا أحجية وتمائم وتعاويذ، ولكنها لأمر ما نزعت هذه الأحجية يوماً، فإذا بها تمرض، وإذا المرض يشتد بها يوما بعد يوم، ولم يعد بخور ينفع، ولم تعد تمائم تصد إصابة (العين)، وإذا (العين) أصابت فليس لأصابتها مرد. وبعد أيام جاهدت الطفلة فيها جاهدت الطفلة فيها جهادا لا تحتمله إلا تلك الأجسام التي زودت حديثاً بالحياة، فهي حارة قوية بنيانهم؛ بعد أيام توفيت الطفلة الجميلة فتوفيت معها أفراح الأسرة ومباهجها إلى زمن طويل. أبعد هذا لا يعتقد (بالعين)؟

وفي ثاني يوم هذا العام كان الرجل يسير في الطريق كالمعتاد يرسل صوته الجميل وهو متلذذ بسماعه مرات ومرات بهذا النداء المستحب وتلك النغمة الساذجة البديعة: (عاشورا المبارك. . . حليمة رقت نبينا من العين)؛ وأطلت من النافذة فتاة في نحو العشرين، جميلة الصورة نجلاء العينين. وكانت عيناها أول ما يبدؤك منها لسوادهما وجمالهما. كانتا عينين

<<  <  ج:
ص:  >  >>