تمر الأمم في استقرارها وتحضرها بثلاثة أطوار عامة من أنظمة الحكم: ففي الطور الأول تكون أزمة الأمور بأيدي رؤساء القبائل الرحالة أو القريبة العهد بالاستقرار، وهو ضرب من الحكم أرستقراطي؛ وفي الطور الثاني تتجمع مقاليد الحكم في يد حاكم فرد يوحد أجزاء مملكة ذات مساحة يعتد بها وتخوم طبيعية، وهو نظام الملكية؛ وفي الطور الثالث يعود تصريف شؤون الدولة في أيدي جميع أبنائها القادرين، وهو النظام الديمقراطي الذي هو أصلح الأنظمة جميعاً، إذ هو أدناها إلى العدل والمساواة وأجدرها أن يفسح المجال للمواهب الفردية ويمهد الطريق لرقي الأمة.
ومن الشعوب البدائية ما لا تتجاوز الطور الأول، ومن الأمم ما تقف عند الثاني كجميع دول الشرق القديم، ومنها ما تصل إلى الثالث كبعض مدن اليونان ورومه، وقد تعود دولة بعد بلوغ الطور الثالث فترتد إلى الثاني، لنكسة في أحوالها تحرمها التمتع بمزايا الحكم الديمقراطي وتجعل الحكم الفردي ضربة لازب، ومثال ذلك رومه حين اتسع سلطانها وأفسد الترف أخلاق أبنائها، فعجز السناتو عن تصريف شؤونها ووقع حكمها في قبضة الدكتاتوريين والأباطرة.
وقد عرف العرب الطور الثاني من أطوار الحكومة في جاهليتهم في أطراف الجزيرة، حيث ساعد خصب الأرض واستواؤها على توحد دولة متسعة وتوطد ملكية قوية، أما في سائر الجزيرة فظل الطور الأول، طور الحكم الأرستقراطي، سائداً، وبلغ بين بعض قبائلها ولا سيما في الحجاز مستوى عالياً من الأحكام؛ وكانت لأشراف العرب دراية عملية فائقة بقواعد الحكم والاجتماع. تتمثل في قول الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فان تولت فبالأشرار تنقاد
وهو تلخيص شعري رائع لنظريات أرسطو في السياسة. وقد نمى هذا النظام في نفوس العرب نزعات الحرية والحمية والشجاعة التي أدت إلى دوام الخصام بينهم، وأورثتهم