للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الفخر بالعصبية والتمدح بالنسب؛ وأثر كل ذلك بين في أشعار ذلك العهد التي أغلبها تكرار مستمر للمفاخر والمآثر القبلية، وتمدح بالعز والمنعة، فإلى ذلك صرف شعراؤهم قولهم، ولم ينصرف الشعراء إلى مدح الملوك وتعداد مآثرهم دون مآثر القبيلة أو الأمة إلا حيث قامت ممالك الغساسنة والمناذرة والتبابعة، فكانت من ذلك مدائح حسان والنابغة والأعشى.

فلما جاء الإسلام خرج العرب دفعة واحدة من الطور الأول من أطوار أنظمة الحكم طور الأرستقراطية، إلى طور الملكية الذي توطدت بينهم قواعده وظلوا في حدوده لا يتعدونه إلى الطور الثالث طور الديمقراطية؛ ويرجع تمكن الملكية بين العرب بعد تعودهم التشاور في الأمور ورغم حض الإسلام على ذلك التشاور، إلى عوامل خطيرة أولها مكانة النبي عليه السلام: إذا كان أول حاكم فرد للجزيرة، وكان له من جلال النبوة وعظمة الشخصية والقدرة الخارقة ما عود العرب الامتثال لأمير مطاع؛ وزادهم انقياداً لهذا الضرب من الحكومة اقتفاء العمرين أثره في عدل الحكم ونجاحهما في الخارج والداخل، وحرص المسلمين على وحدة الكلمة والدين ما يزال يجاهد أعداءه؛ ومن تلك العوامل أيضاً اتساع أطراف الدولة العربية السريع، حتى عادت إدارتها متعذرة إلا بيد حاكم فرد مطاع؛ ومنها قيام الدولة على أنقاض ملكيات عتيدة ما لبثت تقاليدها أن سرت في كيان الدولة الجديدة؛ ومنها الصفة الدينية التي ظل يتخذها الحاكمون

لذلك هجر العرب تدريجياً تقاليد التشاور وتوطد لديهم نظام الملكية المطلقة، فكان منذ قيام دولتهم النظام الوحيد الذي عرفوه، أو فكروا فيه، فلم يقم من مفكر يهم من نادى بنظام مخالف له، أو دعا إلى ضرب من الديمقراطية؛ بل كانت الملكية لديهم هي النظام الطبيعي الذي لا نظام غيره؛ وظل لسان حالهم قول المتنبي: (وإنما الناس بالملوك)، وإنما كان أحرار هم يفرضون في الملك العدل والإصلاح واتباع أحكام الدين وإلا وجب خلعه. وعلى هذا الأساس كان خلع عثمان والوليد ابن يزيد، وامتلأ تاريخ العرب بالثورات، ولكنها لم تكن - فيما عدا ثورة الخوارج الذين تمسكوا وحدهم بتقاليد الجاهلية وديمقراطية الإسلام - تمردا على نظام الملكية المطلقة، بل كانت ثورة مظلوم على ظالم، أو وثبة فرد بفرد، أو فتكة أسرة بأسرة؛ وفي ظل هذا ظل هذا النظام الملكي المطلق بلغ الأدب العربي غاية رقيه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>