أوشكت هذه الصفحة أن تحترق لطول ما أنَّ عليها الفقر وزفر فيها الشقاء، وأغنياؤنا - أحياهم الله - لا يسمعون لأن آذانهم مبطنة بالذهب الأصم، ولا يشعرون لأن قلوبهم مغلفة بالورق المالي الصفيق؛ وبال الخليّ أطول من ليل الشجيّ، وسمع الناعم أثقل من همّ الشقى، ودنيا اللذة أشغل بمباهجها وملاهيها عن دنيا الألم!
لعل من القارئين من يختلج في رأسه هذا السؤال:
لماذا يمتد نفَسي بهذا الأنين الموجع، ويستمد قلمي من هذا الدمع القانىء؟ وجوابي أني نشأت في قرية من أولئك القرى العشرين التي سلط القدر عليها الباشا والأمير؛ فانشق بصري على مناظر البؤس، وتنبَّه شعوري على مآسي الجور؛ وعلمت حين تعلمت أن وطننا يفيض بالخير، وديننا يأمر بالإحسان، فأيقنت أن فقر الناس، ناشئ من فقر الإحساس؛ فإذا عرف الفقير حقه، والغني واجبه، تلاقت الأنفس على حدود الإنسانية الكريمة، فأنا أحاول بمواصلة هذا الأنين أن أعالج وقْر المسامع وسدَر العيون وخدَر المشاعر، عسى أن يتذكر المترفون أن لهم اخوة من خلق الله يأكلون ما تعاف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء مالا يقاسيه حيٌّ في غير مصر. ولكني علمت وا حسرتاه بعد شهرين مضيا في الشكوى والاسترحام، أن بين أبناء الذهب وأبناء التراب أطباقاً من اللحم والشحم، والحديد والأسمنت، ترتد عنها أصوات الضارعين أصداءً خافتة؛ ثم تتجاوب هذه الأصداء في أكواخ المساكين؛ ثم تتهافت على بريد الرسالة تهافت الأرواح الهائمة على الشعاع الهادي تتلمس في ضوئه الطريق إلى الله وائِلِ الضعيف وعائل المعدم!
من لنا بمن يفتح عيون السادرين على هؤلاء الأيامى اللاتي يقضين ليل الشتاء البارد الطويل على بلاط الأفاريز وقد تطرح أطفالهن على جنوبهن طاوين ضاوين لا يفهمون عطف الأب، ولا يعرفون دفء البيت، ولا يدركون إلا أنهم أجساد تعرى ولا تجد الكساء، وبطون تخوى ولا تصيب الغذاء، وأكف تمتد ولا تنال الصدقة؟
من لنا بمن يفتح قلوب المالكين لأولئك الفلاحين الذين اصطلحت عليهم محن الدنيا وبلايا العيش، وجهلتهم الحكومة فلا يعرفهم إلا جباة الضرائب في المالية، وفرازو القرعة في