للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فلسفة الضحك]

للأستاذ عباس محمود العقاد

والذي ذكرني هذا الموضوع نعى الفيلسوف الفرنسي (برجسون)، لأنه صاحب رأي من الآراء المعدودة في (فلسفة الضحك)، ولأن الأشياء التي توضع في الذهن موضع المتناقضات من دأبها أن يذكر بعضها ببعض؛ فالبكاء من ألزم الأشياء لفجيعة الموت، والضحك يناقض البكاء على جميع الألسنة، وإن لم يكونا في الواقع نقيضين أو طرفين متقابلين

فالحزن نقيض السرور ولكته ليس بنقيض الضحك؛ وقد يحزن الحيوان الأعجم ولكنه لا يضحك أبداً ولا يستطيع أن يضحك، إذ الضحك خلة إنسانية ملازمة للعقل والضمير. ويقال: إن الإنسان حيوان ضاحك، كما يقال: إن الإنسان حيوان ناطق: كلاهما وصف لا ينفصل عن التمييز الإنساني ولا يكون لغير الإنسان

وهنا ينبغي أن ننبه إلى أن قهقهة القرد ليست من الضحك إلا في الصوت، وأن الببغاء قد تحاكي الإنسان الضاحك كما تحاكي الإنسان المتكلم، ولكنها جميعها أصداء وأصوات ليس لها من التمييز المنطقي نصيب

ولا غرابة في أن يُعرَّف الإنسان بالضحك كما يعرَّف بالمنطق والتمييز، لأن المنطق هو الذي يجعلنا نضحك، وكل عمل مضحك فهو في حقيقته منطق ناقص أو قضية يختل فيها القياس والترتيب

ومن ثم يضحكنا الأطفال لأنهم لا يحسنون القياس، ولكنهم يركبون القضايا المنطقية تركيباً في نقص واختلال

فالطفل الذي يرى أباه يحلق ذقنه فيصر على أن يحلق ذقنه مثله يقيس قياساً منطقياً لا يدري موضع النقص فيه

وكذلك الطفل الذي يصيح في أهله أن يردوا شعره إليه بعد حلقه، إنما يقيس الشعر على الأشياء التي تؤخذ منه وترد إليه كلما شاء استردادها، فيخطئ القياس

والكبار الذين يضحكوننا إنما يصنعون مثل هذا: يقيسون ويخطئون القياس، ويكتفون بالمحاكاة ولا يتصرفون

<<  <  ج:
ص:  >  >>