هبطت ليلة الثلاثاء (١٥ رجب ٤٨٤هـ) على قصر الملك الشاعر، وهو لا يزال على العهد به مُذْ عشرين عاماً، سابحا في النور، رافلا في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يخفهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونذرها، إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد، وتعزف رياحها الهوج العاتيات. . . لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون من بعدها صباحا طلقاً، ضاحك الطلعة ساجع الطير مزهر الروض.
كذلك عودتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان عظيم الثقة بها والاعتماد بعد الله عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورثه الجدود، بطلا في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرّت عليه فجأة بعد ما طال أنسه بالدعة، وبعد ما نام عنه الدهر فطالت نومته، وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.
وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً، فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً. أو أنصدع قلبه وانخلع فؤاده فخضع واستسلم، ولكن المعتمد بن عباد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل أحتمل هذه الشدائد صابراً عليها، معداً العدة لدفعها.
لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث كانت كالحلقات في سلسلة أسره: أنقلب عليه حليفه القوي أمير المسلمين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الأسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز أمس بالخميس العرمرم لم يعده هذه المرة للأسبان، ولم يسقه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه، ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حمية جنده، بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة، وهذه الممالك المزورة: