بعد كتابي الذي أرسلته إلىديقي الزيات منذ أيام، قد أدرك القارئ أنني راضٍ كل الرضى عن هذا العنوان الذي اتخذه الشاعر المهندس سمة لكتابه الجديد. وكيف لا نرضى عن هذا العنوان، وكثير منا من استقل زورق العمر، يطفو به فوق بحر الحياة، تتدافعنا رياح الحوادث، وتتجاذبنا أعاصير القضاء، وتحدق بنا الصخور والأمواج من كل جانب. فإذا أبصرنا على بعد جزيرة أمل ماثلة لأعيننا، لم نلبث أن نضل السبيل في البحث عنها، فلا نزال حائرين، ولا ننفك تائهين!.
كان ظهور (الملاح التائه) لعلي محمود طه و (وراء الغمام) لإبراهيم ناجي في شهر واحد وفي سنة واحدة من أحسن النعم الأدبية على قراء العربية. وقد ظهر كلاهما في شهر أيار، حين تخرج الورود والرياحين، فتملأ الأرجاء عبيراً وبهجةً وجمالا. ولست أشك في أن هواء الأدب قد امتلأ أيضا بأريج هذه الزهرات الأدبية اليانعة.
إن شعر علي محمود طه ليس مجهولاً للقراء؟ فقد ظهر منه (الرسالة) وفي (المقتطف) وفي (أبولو) شيء كثير. ولكن هناك فرق بين أن نطالع شعر الشاعر موزعاً متفرقاً، وبين أن نتناوله مجموعاً في سفر واحد. فأنا نجده في الصحف ملقى بين مختلف المواضيع والمنشآت التي تشبه في تنوعها وكثرتها (سلطة) الفواكه، قد اختلط منها التفاح بالموز، والعنب بالبرتقال، والشليك بالكمثرى، بل قد تجد أيضاً قطعاً كبيرة من اللفت أو الفجل، لا تدري كيف اتخذت سبيلها إلى تلك البيئة الغريبة عنها.
لهذا كان ظهور تلك الأشعار مجموعة في كتاب مستقل حادثاً يسترعي الأنتباه، ويستوقف النظر الذي كان يمر بتلك القصائد من قبل مراً سريعاً. ولدينا ويا للأسف شعراء كبار مثل حفني ناصف وإسماعيلبري لم يعنوا - ولم يعن أحد بعدهم - بجمع أشعارهم في كتاب. فليس في قلبنا منهم سوىورة مبهمة ناقصة فإخراج أشعار علي محمود طه في كتاب هو الحادث الذي يتيح للمرء أن يجلس لكي يتذوقها، ويتناولها بالنقد وبالدراسة.