للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الصفات المحسودة]

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال شوبنهور: إن حسد المرء للشيء يكون على قدر يأسه من نيل مثله؛ وهذا اليأس سبب أساسي من أسباب الحسد، فقد يحسد صاحب الضياع والعمارات والسيارات، ولكن حاسده قلما يقصده بحسد كحسده لصاحب العقل الرجيح الأصيل الذي يستمد من العبقرية الموروثة صفاتها. فالأول قد يحسد في فترات غير متصلة، لأن الحاسد يرجو أن ينال الخير على يديه مما لديه، أو يرجو الخير من جاهه ووساطته لدى من تنفع شفاعته عنده. فالخير يرجى في التحبب إلى الغنى والخضوع له والمهابة عند طلعته؛ وهذه أمور قد تكون ظواهر تستر حسدا، ولكن المرء إذا روض نفسه عليها واعتادها عاد بعضها حقيقة في نفسه يخالطها أو لا يخالطها النفاق. ومما يعين في تحويلها إلى حقيقة أن المرء مأخوذ بوسائل الحياة، منهوم بها من مال وعقار وجاه، فهو يعدها أسباب الحياة الأولية أكثر مما يعد العبقرية من أسباب الحياة؛ ولا يجل الناس عقلاً بلا مال قدر ما يجلون مالاً بلا عقل. فالموهوبات المادية لا يحسدها المرء قدر حسد الموهوبات العقلية، لأنه يرجو الخير عند الأولى بالتحبب إلى صاحبها، ولأنه يهابها، والهيبة والإجلال تتغلب على الحسد للمرء المهيب. أما الثانية فإذا كانت استعداداً موروثاً من صفات العبقرية لا يجلبه التعليم ولا تخلقه التربية، لم يكن للمحروم أمل في نيلها؛ وهذا اليأس منها منشأ الغيظ والمقت والحقد والحسد. ولعل النفس تزكى نفسها بأن المرء المحسود لم ينل الاستعداد الموروث بجد واجتهاد وعمل فهو لا فضل له فيه، وهذه مغالطة، فان الاجتهاد والجد والعمل صفات منشؤها استعداد موروث آخر.

ولا يحسد المرء المال الموروث قدر حسده العقل الموروث، لأن المال الموروث يوجد مثله في السوق، وقد ينال الصعلوك مثله وأكثر منه فيغنى بعد فقر. فالأمل في كسبه موجود دائماً حتى وإن بعدت وسائل نيله؛ وإذا وجد الأمل لطف من عدواء الحسد. أما الاستعداد العقلي الموروث فلا يناله أحد بالاجتهاد والعمل كما ينال العلم المكتسب الذي هو شيء آخر، فليس عند المحروم أمل في نيل صفات العبقرية الموروثة مهما كان أمله عظيما في نيل العلم المكتسب، فتراه يحسد على الاستعداد العقلي الموروث أكثر من حسده على

<<  <  ج:
ص:  >  >>