ولما كان ما نراه اليوم من فساد ناتجاً عن سوء فهم الناس لمعنى الاختلاط فلندرس إذن الاختلاط ولنفهمه بمعناه الحقيقي. الإنسان مدني بطبعه، أي أنه لا يمكن أن يعيش منعزلاً؛ فلا بد من التعاون الحقيقي بين أفراد الإنسان بوجه عام. فإن اختلاف القوى البدنية والعقلية يحتم احتياج كل إنسان إلى الآخر لإكمال ما به من نقص، ولكي يتعاون الجميع على الحياة في أمن وهدوء. والحياة كثيرة الشعب متعددة الفروع بحيث أن كل فرد لا بد أن يقوم بعمله كاملاً من ناحية اختصاصه. ومن هذا نرى أن الرجل لازم للمرأة، وأن المرأة لازمة للرجل، أي أن الاتصال بين الرجل والمرأة لازم لا لحفظ النوع فقط؛ وإنما كذلك للتعاون على شؤون الحياة، أو بمعنى آخر نستطيع أن نقوله أن الاختلاط أمر لا بد منه، ولكن متى يكون هذا الاختلاط وما حدوده؟
الاختلاط ممكن في الحدود الطبيعية أي حيث تتطلبه شؤون الحياة. وهو لا يكون حينئذ خطراً لانصراف الفكر إلى المهام الجدية التي تطلبها الاختلاط، ولانعدام الجو الذي يولد التفكير السيئ. فالرجل الذي يذهب ليشتري شيئاً تحسن المرأة صنعته أو تجارته، لا يتوفر لديه ما يبعث على التفكير السيء؛ والمريض في المستشفى محتاج إلى رقة المرأة وحنانها، فلا ضرر من اتصال الرجل بالمرأة في مثل هذه الحالة، حيث لا مجال للتفكير السيئ. والرجل الذي يتلقى فناً خاصاً تحذقه امرأة لا بأس عليه من اختلاطه بها كذلك. وكل هذا هو ما نقصده به الاختلاط الطبيعي الذي تتطلبه شؤون الحياة وتوزيع العمل بين الرجل والمرأة كما فهمته تلك المرأة القروية على حقيقته. فهي تخالط الرجل في الحقل إذا دعت إلى ذلك الشؤون الزراعية، كما تخالطه في السوق إذا دعت إلى ذلك حاجة البيع والشراء. ولكن هؤلاء الذين تختلط بهم في الحقل وفي السوق تحتجب عنهم في المنزل لأنها في هذه الحالة لا تجد مبرراً طبيعياً لاختلاطها بالرجال، وعلى ذلك نستطيع أن نقرر في غير تحرج أن تلك القروية قد أدركت بفطرتها السليمة وظيفتها الحقيقية أكثر مما فهمتها تلك الفتاة الحضرية التي تدعي العلم والفلسفة