للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بمناسبة ذكرى جمال الدين الأفغاني]

إنما ينهض بالشرق مستبد عادل

للدكتور محمد قرقر البهي

لكي نتعرف هذا المبدأ أو هذه الحكمة التي قد يخيل إلينا أنها طابع لنزعة لا تتلاءم وأساليب الحكم في المدنية الحديثة، ومع ما يسعى إليه الفرد من حرية، يجب أن نبحث الدوافع التي حملت حكيم الشرق وباعث نهضته السياسية في القرن التاسع عشر على أن ينادي بهذا المبدأ بعد اعتقاد جازم به، ثم نبحث كذلك مدى علاقة الحكم الفردي بالمشورة التي هي أساس الحكم الديمقراطي ومدى علاقته كذلك بالحرية التي يسعى إليها الإنسان

جمال الدين لم يعتقد هذا المبدأ بناءً على شغفه بالبحث النظري، ولم تمله عليه رغبة علمية مجردة عن مراعاة الواقع، وإنما هي التجارب وأحوال الشرق في ذلك الوقت التي قادت تفكيره وأوحت إليه بهذا المبدأ العملي.

جمال الدين رأى تفرق الأمم الشرقية ليس بعضها عن بعض فحسب، وإنما الأمة الواحدة موزعة إلى شيع وأحزاب، رأى المصالح الشخصية هي التي تملي على القائمين بالأمر في ذلك الوقت قواعد السياسة في الحكم وتصريف أمور الشعب. رأى أن الأمة لم تعرف بعد ما يسمى (بالصالح العام) أو كما يقول عنه الفلاسفة (مبدأ حيوية الدولة واعتبارها الكائن الحي الأعلى الذي يندمج فيه كل الأفراد). رأى تدخل الأجانب في سياسة الشرق الإسلامي كله وإذلالهم شعوبه على يد أفراد من بنيها لقاء تلبية بعض رغبات شخصية أو ضمان سعادة مؤقتة لهؤلاء. رأى تفكك أواصر القرابة وتحكم الظلم في الطبقات الفقيرة.

كل هذه العوامل أو هذه المشاهدات لم تترك في نفس جمال الدين أثراً من الشك في وجوب معالجة أحوال الأمم الشرقية والنهوض بها. ولكن على أي أساس؟ بالتربية؟ نادى بذلك منذ فارق بلاده في رحلاته إلى الهند، وتركيا، ومصر، وبالأخص هنا في القاهرة منذ أن عاد من مقر الخلافة العثمانية في ٢٢ مارس سنة١٨٧١ فقد مكث يحاضر في الأزهر مرة، وفي تلاميذه الأخصاء مرة أخرى، ويحملهم على الكتابة في الصحف ونشر الدعوة، مدة ثماني سنوات (١٨٧١ - ١٨٧٩) ولكن بعد ما تبين له أن عوامل الانفكاك داخل الشعوب الشرقية تتزايد، والمصلحة الخاصة للأفراد يتفاقم أمرها في الأداة الحكومية صمم على

<<  <  ج:
ص:  >  >>