أكثرت الصحف في هذه الأيام من مقابلات لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال، خاصة بتخفيض ثمن المياه في القاهرة، كما تردد خبر اجتماعات اللجنة المؤلفة لهذا الغرض من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان!. ولقد زعم لي زاعم من المؤرخين أصحاب الإحصاء أن اجتماعها الأخير كان الاجتماع الـ ٤١١، ٠٣٢، ٦٢٤، ٨٥٣، ٤٧١!.
فترى هل آن أن ينجح المسعى، وتحط الشركة من أثمان الماء، فقد مضى على سكان القاهرة ستون عاماً، وستون عاماً غير قليل، وهم يغصون بماء النيل. وكأن الشاعر كان ينظر بلحظ الغيب إلى القاهريّين وما يعانون من شركة المياه حين قال:
نفرّ إلى الشراب إذا غصصنا ... فيكف إذا غصصنا بالشراب؟
ترى هل ينجح السعي هذه المرة ويحق لساكن القاهرة أن يتمثل بقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ... أكاد أغص بالماء الفرات؟
يا قومنا: أقسم لكم بالله تعالى، غير حانث ولا آثم، أن الشركة ليست تأتينا بالماء من افيان، ولا من إكس ليبان، ولا من فيشي ولا من بلاد اليابان حتى يُلتمس لها العذر، بنفقات النقل في البر والبحر، وأجور الحزم واللف والتعبئة والصف، والتأمين خوف الغرق والحريق، وما عسى أن يدركه من العطب في أثناء الطريق. وناهيكم بحساب ما قد يكسد في الأسواق منه، وما قد يبور في المتاجر بانصراف (الهواة) عنه. ومن يدري فلربما ظهرت (ماركة) ماء جديدة. (موديل سنة ١٩٣٨ أو ١٩٣٩)، فيها من المزايا ما ليس في هذا الماء، في ريّ العطاش وبلّ صدى الظِّماء!
ليست تجيء بشيء من هذا حتى تغلو هذا الغلوّ في الأسعار، توفّياً للنفقات وتوقياً للخسار. إنما تدفع إلينا من نيلنا الذي يشق مدينتنا، والذي يجرى بين أيدينا، والذي طالما طغى وزاد، حتى اغرق البلاد، واهلك العباد، واتى على اليابسة والخضراء، وألقى بربان الحذور إلى متن العراء. بل أن من يرى متدفقه في دمياط أو في رشيد، ليحسب انه ماض لري العالم القديم والعالم الجديد. وتراه يغذوا في شمالنا وجنوبنا ألف ترعة، فإذا جاز بنا ضيقت الشركة ذرعه، وباعتنا ماءه (بالشربة) والجرعة! حتى أصبحنا، ونحن نغدو على حافتيه