دار الحديث على ظهر السفينة بيني وبين صديق ممن درسوا في باريس وعرفوا كثيراً من معالمها وأحوالها، فقال لي حين أعربت له عن آرائي في باريس ومجتمعاتها وخواص حياتها الاجتماعية:(خذ باريس وحده، واترك من فيها).
وهي تفرقة في موضعها؛ ففرق بين باريس العاصمة التالدة التي تزخر بالربوع والمعاهد الأثرية والعلمية الجليلة، وبين المجتمع الباريزي وخلاله ومظاهر حياته.
وسنخص باريس بالحديث في هذا الفصل، ونحاول أن نعرض لمحة من معالمها ومعاهدها وآثارها العظيمة.
باريس عاصمة القرون والأجيال المتعاقبة؛ وإنك لتلمح في ربوعها ومعاهدها هذا التعاقب في القرون والأجيال، فمن آثار رومانية وقوطية، إلى آثار العصور الوسطى، ثم عصور الملكية الزاهرة وآثار الثورة ثم الإمبراطورية والعصر الحديث؛ وهذه الأجيال المتعاقبة هي فخر العاصمة الفرنسية، وتراثها من أجل ما عرفت الأمم والعواصم التالدة.
وهذا التعاقب في العصور ظاهر الأثر في باريس وفي أحيائها، فباريس مدينة عظيمة شاسعة الأرجاء ولكنها تبدو كأنها عدة مدن متباينة شيدت في عصور وظروف مختلفة؛ فمن أحياء قديمة تغص بالشوارع الضيقة والمباني العتيقة وتحمل أسماء تاريخية لا شك في قدمها، ومن أحياء جديدة تلمح أثر التجديد في شوارعها وميادينها الشاسعة، ومن أحياء مزجت بين القديم والجديد؛ وهذا التباين في تخطيط العاصمة الفرنسية وفي أحيائها يجعل منها مدينة قليلة التجانس والتناسق، بيد أن مسحة من الجلال والعظمة تطبع هذه المجموعة الضخمة المتباينة من المعالم والربوع.
وفي باريس من المشاهد التاريخية الجليلة ومن المواطن والأحياء العظيمة ما يقتضي وصفه فصولاً بأسرها؛ ولقد خصت هذه المواطن ببعض الكتب الساحرة من قلم المؤرخ لينوتر وغيره؛ وسنحاول أن نمر مسرعين بطائفة من هذه المشاهد والمواطن التي كتب عنها الكثيرون من قبل.