أكتب هذا وكل ذرة في ثرى مصر وفي جوها وفي مائها تتلفت حواليها لتنظر إلى الضجة التي خفقت في جنيات الأرض المصرية لليوم المشهود - يوم الجلاء عن مدن الوجهين القبلي والبحري إلا ما استثنته بريطانيا عصباً وافتئاتا. نعم هو الجلاء - جلاء الجندي المتغطرس الذي كان يمشي على أديم مصر تياها مستكبراً متعاليا ليذل الشعب الذي احتقره وازدراء على قوته وعلى سلطانه، ولم يعبأ ولا بثيابه بكبريائه. وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الفقير الذي يسير في الطريق حافياً في أسمال؟ وكيف يفعل ذلك وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر الدنيا إلا ما حضر بين يديه؟ وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الذي هزمته بريطانيا في موقعه التل الكبير ١٨٨٢، ثم انساحت جيوشها في أرضه بالمذلة التي كتبها الله عليه؟ هكذا كان يمشى كل جندي بريطاني على أرض مصر وهو يحدث نفسه بهذا كله، والمصري ينظر ليس فيها الحقد ولكن فيها الاحتقار، ويبتسم إليه ابتسامة ليس فيها الرضى ولكن فيها السخرية، ويصافحه مصافحة ليس فيها الترحيب ولكن فيها الإيمان بأن الذي أمامه إنسان مغرور يظن أن الدنيا باقية له، وهي الدنيا التي تداولتها من قبله القرون والأمم فرالوا وبادوا، ونالها من بعدهم من كانوا لهم تبعاً أو عبيداً.
هكذا كان ينظر الشعب الجاهل الفقير المهزوم بزعمهم نظرة فقيرة ولكنه عزيز، شعب جاهل ولكنه مؤمن، مهزوم ولكنه مترفع عن دنايا الأخلاق.
نعم هذا الجلاء، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيله الفرح بما تم عن الهدف الذي رقى إليه؟ إن بريطانيا قد علمت أن لا قبل لها بإبقاء جنودها مفرقة في مدن مصر فتكون قذى في العيون يحدث آلاما تنبه النفوس يوماً بعد يوم إلى عدوانها وبغيها، فآثرت أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكان بعيد عن عيون الشعب، تريد أن تجعل مثل هذا العبث منة يحملها الشعب المصري، فكيف عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخبثها. فما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللئام عن رذائلها، قامت صحفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنت على بريطانية (حملة سباب) ف نفس المكان الذي أشارت فيه إلى مسألة الجلاء