للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[القيم الروحية بين العلم والمادة]

للأستاذ واصف البارودي

الإنسان مجموعة متناقضات؛ لذلك تراه متناقضا في طبعه وفطرته. فهو صادق كاذب، وكريم بخيل، وشجاع جبان. . . الخ ولا تجد صفه من هذه الصفات متلبسة بلباس الفضيلة والرذيلة حتى إمكان تلبسها بالكساء الآخر. فالصدق أب الفضائل، والكذب أم الرذائل؛ ومع ذلك ألا نجد الصدق رذيلة في النميمة ونقيصة في الغيبة؟. . . ثم ألا نعتبر بعض مظاهر من الكذب، في إصلاح ذات البين مثلا، فضيلة ندعو إليها؟. . . وهل في العالم إنسان يعتر البخل فيما تستلزمه الكرامة الإنسانية، وفيما تقتضيه واجبات المحافظة على الوطن رذيلة ما؟ وهل في السماح بأرض الوطن فضيلة ترتاح لها النفوس؟. . . مثلا. فأين الفضيلة؟ وأين الرذيلة إذن؟. . . أهما مستقران في الألفاظ؟ أم هما من المعاني المنبثقة من صميم النفس بحسب إشعاع روح المجتمع فيها بأمر من الخالق المدبر، وبحكمته؟. . .

المطلق هو الله وحده، وكل ما يصدر عن هذا الكون نسبي لأنه خاضع، بحسب تكوينه، للتطور والتحول، بحكم مطاوعته لفعل المؤثرات في الخارج، وبحكم استجابته لأحكام التفاعل التكويني المستمر في داخله. فلا غرابه إذا تجاذبته المتناقضات، ولا عجب إذا اشترط تحققه الإنساني بتحقيق التوازن بين تلك المتناقضات، وبتركيزها!. . .

لكل كائن خصائصه التي يتميز بها، ويعرف. وخصائص الإنسان إنما تنجلي بمظاهر إنسانيته. وهذه لا تبرز إلا بتحقق الإرادة والحرية. وبقدر ما يتنازل الإنسان عن إرادته وحريته، يتنازل، في الحقيقة، عن إنسانيته. ولذلك كانت الحياة البشرية في الأفراد والمجتمعات، كفاحا مستمرا بين عزة الحرية ومنعة الإرادة، وبين ذل الجبرية واستسلامها. فالجبرية ضعف وجمود، والحرية قوة وتجدد. وهاتان العقيدتان المتناقضتان تلخصان، في الحقيقة، تاريخ البشرية منذ وجد الإنسان.

فمنذ تعرف الإنسان بهذا الكون المادي فكر بالسيطرة عليه وكان التوفيق حليفه في جميع الأدوار. غير أن المادة لم تكن تحجم عن الانتقام منه كلما وجدت لذلك سبيلا، ومظهر انتقامها أبرز ما يكون في سوقه إلى جبريتها، والجبرية هي الصفة الملازمة للمادة، ووسيلتها في الإنسان جسمه، إذ الحرية صفة تلازم الأرواح، والإرادة مظهر سام لها؛ ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>