للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تكاد المادة تسوق الإنسان لجبريتها حتى ينقاد لهواه ويعق إرادته. ومنشأ الهوى فؤاد هدام، وسريرة مظلمة. وفي ظلام الفؤاد والسريرة تتناثر الفكرات السامية وتلتحق بالعدم، فلا يكون لها أي تأثير في توجيه الإنسان، أو في تحقيق إنسانيته؛ فيعيش حيوانا يدعي أنه إنسان ناطق.

الإنسان مجموعة متناقضات، وبقدر تقدمه في الحضارة تزداد مظاهر التناقض في نفسه، ولا تنجلي إنسانيته إلا في إيجاد التوازن بين تلك المتناقضات، وفي تركيزها، على ما سبق وألمعنا إليه. وهذه هي الحكمة التي تقضي بوضع كل شيء في محله؛ وبهذا تتكون حقيقة الفضائل وتتفاعل عناصرها. قال أحد الفلاسفة: (ليست الفلسفة إدراكا وتأملا وحسب، وإنما هي حكمة).

المادة والعلم:

من مظاهر التناقض في نفس الإنسان تعلقه بحقائق العلم ومستلزماته، وحرصه على مقومات الجسم والتنعم بملذاته. فالعلم والمادة متناقضان بحسب الظاهر، ولكنهما في الحقيقة، وسيلتان تصلحان لرفع مستوى الإنسان بتحقيق إنسانيته الفردية والاجتماعية، إذا أحسن التصرف، وعرف حدود كل منهما، وكان لبقا في استخدامه. والخير، وكل الخير، يستقر فيهما معا ما داما يستعملان أداة أو وسيلة؛ ومتى أصبح أحدهما غاية للإنسان في حياته، تبدأ الشرور.

فالمال، مثلا، مع فوائده الجمة يقوم عثرة في سبيل التقدم متى حصل اضطراب في نظام جمعه وتوزيعه، فيصبح بعيدا عما تقتضيه الحياة الاقتصادية والحياة الإنسانية من رقى. ويكون مظهر الاضطراب المادي في أمور ثلاثة هي:

١ - تعقيم المال: وهو الرغبة في جمعه وكنزه في الأرض، أو في الصناديق، فيصبح عقيما، إذ لا ينتج أعمالا، ولا يساعد على تحقيق أي مشروع.

٢ - تحكم الآلة: والآلة إذا تحكمت بالإنسان تحوله لآلة. ولا نخشى هنا من أن تصبح وسيلة لكثرة العاطلين عن العمل، وحسب؛ وإنما نخشى أن تنقلب نفسية الإنسان وروحه لنوع من الآلية فيفقد بذلك إنسانيته. وتدارك هذا الخطر إنما يكون بالتربية وبتبديل أنظمة العمل وتثقيف العمال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>