ما أطول حديثنا الصامت في برجنا العاجي! هذا البرج الذي يحرسه (تنين) الوحدة! وما أكثر تلك الخواطر التي تمر برؤوسنا أحياناً كالطيور العابرة دون أن نقتنص منها شيئاً! هنا داخل هذا الإطار وبين هذا السياج سأحبس ما يقع منها تحت ذاكرتي. وإن خواطري لكثيرة، لأن أوقات عزلتي طويلة؛ وليس لي علم بلعب النرد ولا غيره من وسائل قتل الوقت، فالوقت عندي هو الذي يقتلني لأني لا أعرف كيف أقتله. ولقد حاولوا كثيراً في صباي أن يعلموني تلك الألعاب التي تلهي الناس عن أنفسهم في أوقات الفراغ، ولكني كنت أنسى دائماً في المساء ما علموني إياه في الصباح؛ ولم ينفع في أمري تعليم ولا تفهيم. وخرجت من عهود الصبا دون أن أحذق لعبة أو أحجية. شيء واحد كان يلهيني ويسرني، وقد كان عندي بمثابة النرد والأحاجي: ذلك هو الجدل حول فكرة من الأفكار. ولكم أتعبت كثيراً من أولئك الذين كانوا يلعبون معي هذا الضرب من الشطرنج في وقت من الأوقات! لقد كنت أضيع عليهم نهاراً بأكمله دون أن أمل؛ وإن رؤوسهم لتكل فما أرحمهم ولا أرحم نفسي. إن حب التفكير لنقمة. آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر؟! إذن فليعلموا أن القدر يوم دفع الأدباء إلى الوجود صاح فيهم ساخراً:(اذهبوا فإن لكم الفكر، ولكن. . .) ولم يتم كلامه وابتسم ابتسامة هي أبلغ من التعبير.
نعم. ما من أديب أو مفكر إلا أدرك أخيراً بعد أن قطع شوطاً من الحياة أن شيئاً آخر ربما كان أجدى عليه من الفكر قد سُلب منه إلى الأبد! إنا نحسد أحياناً بقية الناس. وإني لأتصور القدر وهو يشيع الآخرين إلى باب الوجود فيقول لهم:(اذهبوا فإن لكم الحياة. . . ولكن. . .).
أجل إنه يبتسم لهم كذلك عين ابتسامته الساخرة، ولكن هؤلاء الناس لا يفهمون مطلقاً أن القدر قد سلبهم شيئاً. وهنا الفرق بيننا وبين بقية الناس: إننا نحن رجال الفكر ندرك تمام الإدراك ما سُرق منا وما فقدناه؛ أما الآخرون فلا يعلمون. وهذا سر عذابنا نحن.
والآن وقد تكشفت لنا حياتنا الفكرية عن برج مرتفع لا خروج لنا منه؛ برج يملؤه السكون ولا نسمع فيه غير صدى أصواتنا الضائعة؛ فلنتكلم إذن بين تلك الجدران. فإن رجع