خرجنا من بغداد فسلكنا على (حي البتاويين) ظاهر (الباب الشرقي)، وجزنا على قصوره الشم التي تتكئ فيها الأرستقراطية الناعمة على الأرائك سكرى بخمرة الذهب، وسرنا إلى (الهنيدي) في الطريق التي تنام على بسط الحقول السندسية، يحرسها صفان من النخيل، حتى انتهينا إلى (المعسكر البريطاني) صرح أكاسرة اليوم، فتركناه وأممنا صرح أكاسرة الأمس لنقف عليه ذاكرين معتبرين.
عبرنا نهر (ديإلى) وخلفنا القرية جاثمة على كتف النهر، قد دلت رجليها في مائه، واستقبلنا الفلاة الواسعة، فما عدنا نرى إلا الفضاء؛ حتى إذا سرنا فيها ساعتين طلعت علينا قرية (سلمان) تلوح على حاشية الأفق، تضح وتغيب، ثم تبيناها ورأينا قبة مسجدها واضحة، ورأينا بجنبها بناء ضخماً كأنه جبل. . . قلت: ما هذا؟ قال صحبي: هذه قبة سلمان الفارسي، وهذا ايوان كسرى. فقلت: يا للعجب! أطاف سلمان حتى استقر قبره بجانب الإيوان، فغدوا متلاصقين، وبدوا متعانقين؟ وحثثنا (الدراجات) إلى القرية فبلغناها بعد ساعة.
كانت قرية صغيرة، نشأت على تربة سليمان رضي الله عنه، ليس فيها - إلا مسجده - شيء يذكر؛ أما الإيوان فهو في ظاهر البلد، متربع على ظهر الفلاة وحيد معتزل، مطرق حزين!
وقفنا عليه فإذا هو طاق عال مهدم، وجدار شامخ متصدع، وإذا هو ضخم فخم، ولكنه عار موحش، ليس فيه صورة ولا نقش: لا صورة إنطاكية التي تروع بين روم وفرس، ولا انوشروان الذي يزجي الصفوف تحت الدرفس، ولا عراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس، ومن مشيح يهوي بعامل رمح، ويليح من السنان بترس. . .
لقد محا الدهر الصورة، كما محا أهلها، ودار الزمان دورة أخرى، فأصبح حاضر البحتري ماضياً وعيانه أثراً. . . ذلك لأن الماضي نقطة واحدة، تتلاقى فيها الأبعاد، وتضيع المسافات، وتفنى الدهور. . . نقرأ قصيدة البحتري، ونرى الإيوان، فنحس أنهما قد التقيا