خبت نار الحرب الكبرى السابقة، وبقي أثر رزاياها وذكر أهوالها باعثين من البواعث على حب السلام والوعد بحفظه والتحذير من نقضه. من ذلك قول الفيكونت جراي إن الأفراد والأمم (إذا أرادوا ضمان المستقبل وحياة المدنية، وجب أن يعرفوا هل الحال العقلية السائدة في الحاضر هي أكثر حذراً وصواباً من العقلية التي سادت قبل تلك المحنة العظيمة، وإلا زالت مدنيتنا كما زالت مدنيات سابقة)؛ وقول بلدوين رئيس الوزارة البريطانية الأسبق (من في أوربا يجهل أنه إذا وقعت في الغرب حرب جديدة انهارت في زلزلة هائلة مدنيتنا المؤلفة، كما انهارت مدينة روما) وقول المستر ديفز (إذا نشبت حرب عالمية جديدة، واحتدمت بالأسلحة التي تعدها التطبيقات العلمية للإنسان، سهل إبادة الأمم في بضعة شهور)
لكن التجارب والمخاوف جميعاً لم تمنع هذه الحرب الضروس الشعواء التي يشهد العالم طرأ ما تحدث وحشيتها من دمار وانهيار. ذلك بأن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شان النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقصور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة، والتجارة والتسلح؛ وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين، تشتبك بحجة الدفاع الشرعي أو الدفاع عن شرف الدولة وسيادتها، وتارة ببعض تلك الحجج التي تموه بها بواطن الأمور وحقائقها من أنانية وشهوات وأطماع ذاتية ومصالح شتى، لتندفع الشعوب إلى الملاحم الجهنمية والمجازر الآدمية
على أن كل حرب كبيرة تعقبها فترة رجعية سببها الحاجة الطبيعية إلى الراحة واستجمام القلب ولم الشعث، فترة تهبط فيها غريزة المنافسة الطليقة إلى مستواها الأدنى، وتتلاشى في المعسكرات لتظهر على الأخص في الميدان الاقتصادي، فتدفع إلى الاستعداد لحرب تالية وإن كثرت الوعود بالمحافظة على السلام وبتوطيد دعائمه ومنع الحرب. من هذه