الأستاذ توفيق الحكيم أكبر أدبائنا القصصيين. لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء إنتاجاً وأخصبهم قريحة. عالج أنواعاً من القصة فوفق فيها وأني بالمعجب المطرب، ومن ذلك قصته الأخيرة (عصفور من الشرق) التي فرغت من قراءتها الآن، فأحسست كأني كنت في جنة سحرية، ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي. وأكبر ما أعجبني فيها هذه النظرة إلى الغرب وماديته، وهذه القولة الجريئة في بيان حقيقة الغرب وتخلفه في ميدان الروح، على سبقه في مجال المادة، تلك التي لو قالها غير الأستاذ توفيق الحكيم لا تهمه هؤلاء المفتونون بالغرب من شباننا بالجمود والرجعية وما إلى ذلك من الألفاظ التي حفظوها حفظ الببغاوات، وما فتئوا يرددونها ترديد الحاكي، فلما قالها الأستاذ الحكيم وهو الذي يعترفون بأدبه، ويقرون بسمو منزلته، ويتمثلون بأقواله، سكتوا ولكن على مضض. وهذه ميزة كبيرة للقصة ترتفع فيها إلى صف القصص العالمية التي لم تنشأ لمجرد اللهو، ولإمتاع القارئ بالجمال الفني، وإنما جمعت إلى الجمال الفني نظرة تحليلية إصلاحية عميقة؛ غير أني أخذت على القصة أشياء، منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يمس الدين، ومنها ما يعود إلى اللغة. أسأل عنها الأستاذ الكبير، ليوضح منها ما خفي، ويفتح ما استغلق
أولها: إن القصة تكاد تكون مؤلفة من حلقات ثلاث لا صلة بينها إلا صلة محسن الذي يمر فيها جميعاً، أندره وأمه العجوز وزوجها الهرم، ودارهم التي وصفها المؤلف وبيّن أنه لا مورد لشيخي الدار إلا ما يأتي من محسن، وبدا للقارئ أن بين محسن وأهل الدار أكثر مما يكون بين مستأجر وبين أصحاب المنزل. فلما انتقل محسن إلى المنزل، انقطع الحديث عن والدي أندريه وعن منزلهما، على حين أن القارئ يتشوق للعودة إلى حديثهما، وما كان من أمرهما بعد انتقال محسن
والحلقة الثانية: سوزي التي أحبها محسن وشغف بها ثم انتهت العلاقة بينهما على هذا الشكل، ولم يرجع لها في القصة ذكر، مع أن القارئ يحب أن يسمع شيئاً عنها ويعجب من