للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بلاغة الرسول]

كلفتني الإذاعة في احتفالها بذكرى مولد الرسول الكريم أن أكتب كلمة في بلاغته تذاع في عشر دقائق، وهذا تكليف بالمحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فإن عشر دقائق لا تتسع للحديث الموجز عن بلاغة كاتب وسط، فكيف تتسع للحديث عن بلاغة رسول اصطفاه الله لرسالته، واصطنعه لوحيه، وعلمه من علمه؟

إن بلاغة الرسول من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه؛ فنحن لا ندرك كنهه وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه وإنما نعلم خبره. هل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟ وهل يعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟ وهل يجد في نفسه من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟ إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربية. وإذا كان كلام الله كتابَ البيان المعجز، فإن كلام الرسول سُنة هذا البيان. وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة محمد وحده. تجمعت فيه صلى الله عليه وسلم خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة، فقد ولد في بني هاشم، ونشأ في قريش، واسترضع في بني سعد، وتزوج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو وهم الأوس والخزرج، وهذه القبائل التي تقلب فيها الرسول هي بالإجماع أخلص القبائل لساناً وأفصحها بياناً وأعذبها لهجة. والوسيلة الطبيعية لاكتساب اللغة والمنطق إنما هي المخالطة والمحاكاة. ثم تولى الله عز وجل تأديبه، فكمله برجاحة العقل وسجاحة الخلق وصفاء الحس وقوة الطبع وثقوب الذهن وتمكن اللسان ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته ومظهراً لنوره. ثم أخذ يتصرف في التجارة على عادة قومه، فضرب في الآفاق وتنقل في الأسواق، فرأى المناظر الجديدة، وسمع المناطق المختلفة، وحصَّل المعارف العامة. والأسفار والأخطار والهجرة بعد توفيق الله تفتق الذهن وترفد العقل وتزيد المعرفة. ثم كان بخلي ذرعه من صوارف الدنيا الليالي الطوال فيعتكف في حار حراء يتعبد ويتأمل ويتجه بروحه الصافي اللطيف إلى الملأ الأعلى. ثم كان من طبعه أن يديم التفكير ويطيل السكوت، فإذا تكلم اختصر من اللفظ، واقتصر على الحاجة، وألقى الكلام بيناً فصْلاً يحفظه من جلس إليه، ولوعده العادَّ لأحصاه، كما قالت السيدة عائشة. كل أولئك قد مكن للرسول من ناصية البلاغة، فأسلس له الألفاظ، وأسمح له المعاني، فلم يندْ في لسانه لفظ، ولم

<<  <  ج:
ص:  >  >>