ذلك الشهر كان مارس! ومارس في أساطير الأولين أله الحرب! ابتليت فيه مصر الوديعة بسطوة الهوى على الرأي، وعدوان الشهوة على الخلق، فجاءها بالخلاف وذهب بالأمن، وابتدأ بالصراع وانتهى إلى الفجيعة. فليت شعري ماذا جنى الزاعمون على الناس من بلايا الناس؟
كانت مصر طوال هذا الشهر كالبركان الجهنمي الثائر، يغلي بالحميم ويرمي بالحمم ويطغى بصهيره الخانق على المغاني والربوع فيهلك الأموال ويزهق الأنفس، ثم يكون ظلاماً في الأرض، وقتاماً في الجو، ونتناً في الهواء، ومواتاً في الطبيعة
وكانت الأمة المسكينة تنفق على معارك الانتخاب الدائرة بين الأحزاب اكرم ما تملك من المال والدم والخلق، وهي لا تدري لهذه الضحايا الغالية التي لا ثواب عليها ولا عوض منها، حكمة ظاهرة ولا ضرورة ملجئة
وكان المرشحون المتنافسون يتعاقبون على الدوائر الانتخابية تعاقب السنين المواحق، فلايتركون وراءهم إلا أُسَراً تتفرق، ووشائج تتمزق، وضمائر تشترى، وذمما تسرق، وعصبية تثور، وأحقاداً تبعث، وأموالا تهلك، ودماء تسفك، وأعمالاً تبور.
فتعالوا نناشدكم الله يا نوابنا وأحزابنا وزعماء الرأي فينا. هل تشعرون بثقل هذه الأوزار التي حملتموها في سبيل التكالب على النيابة والتسابق إلى الحكم؟
ألا تريدون أن تنسوا أن العضوية في مجلس النواب أو في أندية الأحزاب ليست إلا وصفاً يتمم العنوان، ومنصباً يلازم الغنى، ووسيلة تعين على العيش، وطريقة تؤدي إلى الجاه؟
ألا تحبون أن تذكروا أن النيابة عن الأمة معناها حلول أمة في فرد، واستيعاب فرد لامة؛ فهواها غالب على هواه، ورضاها مقدم على رضاه، ورأيها مستبد برأيه، وصوتها مجلجل في صوته، وهمها شاغل لفراغ باله؛ فإذا مثل النائب في المجلس دور الكمبرس، أو وقف في المناقشة موقف الإِمِّعة، كانت نيابته بعد انتخابه مصاباً بعد مصاب، وويلاً بعد عذاب وكفرا بعد خطيئة؟
ألا تودون أن تفهموا أن البرلمان بالأمس كان حسبه أن يكون مظهراً من مظاهر الاستقلال، وعنواناً من عناوين الدولة، وأن العضو فيه كان حسبه أن يشارك في أبهته، ويشرب أكواب الليمون في ردهته، ويفتح مغاليق الأمور بقوته؛ أما اليوم فهو تعبئة لكفايات