غرض كل حي المحافظة على نوعه ونشره في الأرض. فيستعين الحيوان على اختلاف أنواعه لبلوغ هذه الغاية بغريزة البحث وحب الاستطلاع. فالحيوان ومعه الإنسان يولد جاهلاً بما حوله من البيئة لا يعرف عنها شيئاً، فيأخذ من وقت ولادته العلم عن كبرائه ويستمر طول حياته في التحصيل مدوناً في مخه مشاهداته واختباراته مستنتجاً من نتائج تأثيرها عليه ما يساعده في منع الضرر عن نفسه وما يعود عليه بالنفع.
ولما كان الإنسان يمتاز بعقله عن غيره من أنواع الحيوان فإنه يدأب في تعرف أسرار ما يصادفه في حياته بقدر طاقة عقله البشري. ويلقن خبرته وما كشفه من أسرار الطبيعة لسلالته لتتوفر لهم وسائل الحياة ولترتقي معيشتهم.
فالبحث إذن هو القوة الدافعة للإنسان على اختلاف أجناسه لكشف أسرار ما حوله فيضع مشاهداته موضع التجربة لكي يصل إلى نتيجة عملية نافعة. ولولا البحث لما قهر الإنسان الطبيعة وسخرها لخدمته ولما وصل إلى ما هو عليه من الرقي. ومن الخطأ أن يعتبر البحث حرفة أو صناعة يختص بها أفراد دون آخرين.
فهو مشاع لكل مخلوق يريد الحياة، فكل إنسان بحاث في حرفته، ولكل حرفة بحوثها، فما تقدمت الحرف والصناعات إلا بسلسلة متواصلة من التجارب تناقل نتائجها الخلف عن السلف فنشأت العلوم وتنوعت أبوابها بتراكم خبرة بني الإنسان.
توزيع العمل والتخصص
كلما تقدم الحيوان في مراتب الحياة الاجتماعية ينزع بغريزته إلى توزيع الأعمال وتخصيص الأفراد كل في عمل خاص إتقاناً له وتسهيلاً لحياة المجموع. فالتخصص إذن ظاهرة طبيعية تشاهد في شتى أنواع الحيوان. فنراها واضحة جلية في الحشرات الاجتماعية كالزنابير والنحل والنمل والأرضة. ونراها في أكمل صورها في الإنسان؛ لأنه بطبيعته مدفوع إلى التخصص لما اتضح له بالتجربة من امتياز بعض الأفراد دون غيرهم