بإتقان نوع خاص من العمل يميلون بطبعهم إليه. فإذا وزع كل عمل على من يتقنه أدى ذلك إلى سرعة إنجاز الأعمال وإتقانها والاقتصاد في نفقاتها.
والتخصص في الأعمال موجود حتى في أحط الشعوب دركة في المدينة. فنرى في الجماعات التي تعيش على الفطرة أفراداً يبرعون في اقتفاء أثر الفريسة فيسترشد بهم قومهم في الصيد، كما أن منهم من يتخصص في الريافة وهو علم استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده فيعرفون دون سواهم بعد الماء وقربه من لون التربة وشكل سطحها ورائحة ترابها وبما ينمو فيها من النباتات الخاصة وبحركة الحيوانات التي تعيش في باطنها. كما أن منهم من يتخصص في معرفة فوائد الأعشاب فيبرعون في استعمالها لمعالجة قومهم، وهكذا يتدرج الإنسان في التخصص ويبرع فيه كلما ارتفعت مرتبته في المدينة. فنشأ عن تراكم الخبرة أن وضعت أسس العلوم ونظمت فروعها إلى أن أصبحت كما نراها اليوم.
بدأت العلوم نظرية، وذلك أن ذوي العقول الممتازة من بني الإنسان فكروا فيما حولهم من دقائق الكون مدفوعين بقوة عقلهم وصفاء روحهم وعمق تفكيرهم، فاجتهدوا في حل أسرارها عن طريق المشاهدة والاستنتاج المنطقي المؤيد في كثير من الحالات بتجارب عملية تؤيد صدقها. وبهذه الوسيلة وضع علماء الأمم السالفة من مصريين وبابليين وهنود وصينيين وإغريق ورومان وعرب وغيرهم الحجر الذي أسست عليه العلوم الحديثة.
فالعلوم السماوية والفلسفية هي أول ما شغل عقول البشر.
أما العلوم المادية الحديثة فلم تصل إلى حالتها من التقدم إلا بعد مشاهدات ودراسات وتجارب بنيت على أسس علمية وقواعد منظمة قام بها عدد عظيم من الباحثين المدربين على أسس البحث السليمة في جو يضمن لهم مطلق الحرية في إدارة بحوثهم من غير أن يتأثروا بالمؤثرات الخارجية التي تعطل سير تفكيرهم وقيامهم بحل ما يطلب منهم من المسائل مستعينين برؤساء متيني الخلق مجردين عن الأهواء والأغراض المفسدة للنفوس. لا هم لهم سوى الوصول إلى الحقيقة المجردة لخير بني وطنهم خاصة والإنسانية عامة
والواقع أن المدنية الغربية الحديثة لم تصل إلى ذروتها المعروفة إلا بفضل من كونهم من جيوش البحاثين في العلوم الطبيعية والكيميائية والطبية والبيولوجية والهندسية وغيرها.