كتب السياحة كانت توفيقاً ونجاحاً يوم كانت السياحة نادرة عسيرة
بل هي كانت يومئذ أكثر من توفيق ونجاح: كانت واجباً إنسانياً أو (فرض كفاية) يقوم به قليل من الناس عن جميع الناس
فقد كان الانتقال من قطر إلى قطر عملاً مقصوراً على التجار أو المقاتلين، وربما ساهم فيه من حين إلى حين شاعر يقصد ممدوحاً وتلميذ يحج في طلب أستاذ. وكل هؤلاء يعنيهم ما طلبوه وتعمدوه، وقلما يعنون بالمشاهدة أو بتسجيل ما يشاهدون
إنما كان يعني بالمشاهدة والتسجيل أفراد معدودون في كل جيل، يخرجون في مسوح الزهاد أو حباً للرحلة بين أرجاء البلاد، ويعمد واحد منهم في كل جيلين أو ثلاثة أجيال إلى تسجيل ما رآه ووصف الأقوام التي عاشرها والأقاليم التي عاش فيها، فيؤدي (فرض الكفاية) الذي أشرنا إليه، ويدل الأمم على الأمم والعصور على العصور
وكان هذا العمل لازماً في زمانه، ولا يزال كذلك لازماً لنا في هذا الزمان
ففي زمانه كان كل قطر غريباً عن كل قطر غيره وإن قاربه مقاربة الجوار، فالسائح على ثقة من حمل الغرائب التي تشوق وتروق، وهي كذلك تعلم وتفيد
وفي زماننا هذا نقرأ الرحلات لنعرف بلادنا كما نقرأها لنعرف البلاد الأخرى، فالقاهرة في القرن الرابع عشر غريبة عن أبناء مصر الحديثة كغرابة الصين في زمانها أو في هذا الزمان، ونحن نود أن نسمع عنها كما نود أن نسمع عن توكيو وبكين وستالنجراد، لأنها خبر شائق وعلم مفيد
وقد نحيط بعادات الأمم الخالية فنصحح بعض الغرور الذي يركب أبناء العصر الحاضر فيخيل إليهم أنهم هم السابقون إلى كل طرافة وأن المتقدمين في باب الطرائف هم اللاحقون
نحن اليوم نغرق في العملة الورقية ونعلم ما نعلم عن سبائك الذهب والفضة في المصارف والخزانات الدولية، فيسبق إلى وهمنا أنها حال طريفة وأنها عرض من أعراض الحروب في الآونة الحاضرة، ولكننا نفتح ابن بطوطة فنراه يقول عن أهل الصين في القرن الرابع عشر للميلاد: (وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا بدرهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من