يا لحكمة القدر! أفتؤمن يا من تسخر من قوانين الحياة وأنت في عنفوان الصبا، وتهزأ بتقاليد الأسرة وأنت في فورة الشباب، وتعبث بقواعد الأخلاق السامية وأنت في ريعان العمر. . . أفتؤمن يا من تفعل كل ذلك غروراً منك وجهلاً بأن الحياة تمهلك حيناً لتنقْض عليك كالصاعقة الهوجاء فتستلبك من شبابك وقوتك وتذرك وحيداً في ركن من الدار تأكلك الحسرة على أن انطوت سنوات عمرك المشرق عجافاً لم تلدن السعادة في الدار ولا اللذة في الولد، ولا الراحة في الزوجة؟
لقد ضننت بقلبك ومالك يوم أن كنت في الشباب النضير، والقوة العارمة، فصفرت حياتك - وأنت تحبو نحو الشيخوخة الباردة - من قلب ينبض بحبك، أو فؤاد يخفق بالعطف عليك! نشأ الفتى في كنف أبيه وهو يدلّله، ونما وأشتد غرسه في رعاية أمه وهي تحنو عليه، وعاش بينهما سعيداً، رضىَّ البال، مطمئن الخاطر، يبذل جهد الطاقة في الدرس، ويستنفذ وسع النشاط في المدرسة، لا تشغله نوازع الحياة، ولا تفزعه مسارب الرزق، وأبوه رجل فيه العطف والحنان، وفيه الثراء والعقل. . .
وأحس الفتى بالعاطفة المشبوبة تتدفق من قلب أبويه فتفعم حياته بالنشوة والسعادة، فأحب أمه وعلق بأبيه على حين قد حمل لأخيه الأكبر لوماً وعتاباً لأنه طاوع شيطانيته الطائشة، فنبذ المدرسة ولمَّا ينل من العلم إلا قطرات لا تغنى من جهل ولا تدفع من سفه. . نبذ المدرسة ليكون موظفاً صغيراً ينعم بالوظيفة الوضيعة، ويستمتع بالراتب الضئيل، ثم دفعه شبابه - بعد أن خلص من المدرسة - إلى أن يحدث أبويه حديث قلبه، فما تلبث الأب، ولا تعوَّقت الأم، فإذا هو ينتظر الزوجة لتزف إليه. . . والزوجة فتاة من بنات الجيل الفائت، فيها أثر النعمة، وعليها سمة الجمال. . . ورأى الفتى الفتاة وهيتزف إلى أخيه الأكبر. . . فاختلج قلبه، وأخذته روعة المنظر، وخلبته أنوار لزواج، فتمنى أن تنطوي السنوات في سرعة ليصبح هو الآخر زوجاً ورب أسرة. وأحس الأب بما يختلج في نفس ابنه الأصغر، فجلس إليه يحدثه بقلب الأب:(متى. . . متى يا بنى أسعد بزواجك أنت؟) فقال الفتى: (إن