مصر. .! أي شفاه تلفظ هذه الكلمة ولا تجري عليها ابتسامة وسرور؟. . أي نفس لا تغتبط لرؤية هذه الدرة الثمينة، ولا تنعم بجوها المعتدل ونسيمها العليل؟. . .
أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع في أنحائها فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة، يداعبها النسيم فترقص اغصانها، وينبعث من حفيفها هذا الأريج العطري، وذلك العبير الذكي، فيشيع في جو القاهرة روح الحياة، ويسري في عروقها دم الشباب ونشاطه وأي إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأي قلب لم تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند إشراق شمسها في الصباح الضاحي الجميل، وعند غروبها غارقة في لجة من دماء الشفق، تقتتل في حمأتها الملائكة والشياطين.
مصر التي حملتني إليها أجنحة الخيال قبل ان تقلني عربة القطار، مصر التي سحرتني الأحاديث عنها قبل أن تأنس العين بمرآها
أجل! رأيتها! وتمتعت بها اياماً، وقضيت فيها اسبوعاً، وتحققت لي برؤياها أمنية من أحب الأماني التي خفق بها قلبي.
مصر العظيمة الجبارة، مصر الساحرة الفاتنة، تبتسم لي وأنا أطل عليها من نافذة القطار بعين الشغف والوله، هي تبتسم بأنوارها الساطعة، وتضحك بإشراقها المهيب في الصحراء القاحلة، وطلعتها الفتية الجميلة بين باسقات النخيل، والسهول المترامية الاطراف، يسقيها النيل الهادئ الوديع رحيقاً سائغاً شهيا، فترتشف منه حياة قوية فياضة، ويتضاعف من مائه نموها وازدهارها
أي عين لا تطيل النظر في ذلك النهر العظيم تستطلعه أنباء الماضي الحافل، وما تحمله هذه الأنباء من الذكريات المفرحة المؤلمة، وما تخفيه موجاته الهادئة من عبارات التقديس والتبجيل وهو يسير رويدا، حاملا أثقالا مرهقة من الأسرار الغامضة؟
هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات الأجيال ولا نزعات النفوس.