للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفردية علتنا الأصيلة]

لا تزال الفردية أبين الصفات المميزة للعرب؛ ولا تزال هذه الصفة

أجلى ما تكون في مصر! فان المرء ليغالي في فرديته حتى ليوشك أن

يكون أمة وحده!

غلبت هذه الشيمة على العرب الأولين لقلة المرافق المشتركة، وأثرة الطبيعة الشحيحة، ووحدة الحياة الرتيبة، واستقلال النفس القوية، فالرجل منهم كان يحصر الدنيا في خيمته، ويجمع العالم في قبيلته، ثم يختصر القبيلة في نفسه فيجعلها قاعدة لتمثاله وإطاراً لصورته! فهو لا يحيا حياة بهائم الأنعام تحمي ضعفها بالاجتماع، وإنما يعيش عيش سباع الطير والوحش لا تشبل على أفراخها وأجرائها إلا ريثما ترتاض وتضرى. فلما اختيروا إلى الدعوة الكبرى استجابوا لقوة القوى، واطمأنوا لألفة الروح، واستجروا لحكم الجماعة، حتى بلغوا رسالة الله، ثم تحرك فيهم الهوى الموروث، وتيقظ الطبع الأثر، فهبت الفردية تحلل العقدة وتشتت الوحدة، حتى قسمت الوطن بلاداً، ومزقت الشعب أفراداً، خضعوا لسلطان المغير وداوا لقوة الغاضب!

لا تزال هذه الفردية القبيحة وتوابعها من شهوة الرياسة وحب الاستئثار ودناءة الحرص، تقطع أوشاج المجتمع في أقطار العرب، فتفد كل موضوع، وتبطل كل مشروع، وتشعث كل ألفة. وفي مصر أحد تلك الأقطار تستطيع أن تعرض جملة أمرها على رأيك فتجد المثال الذي لا يبعد والحال التي لا تختلف.

فالسياسة هنا وهناك لا تكاد أحزابها تقوم على فكرة جامعة ومبدأ متحد، إنما هي فرد ينبه في الخير أو ينبع في الشر، فتأتلف عليه الأفراد المختلفون، فيكون منهم مكان النظام من العقد، يمسكه ما دام حياً قوياً، فإذا ما انقطع ذهب الحب أباديد. والاقتصاد هنا وهناك جهود فردية تخشى المنافسة وتتعجل الربح وترضى بالنصيب الأخس، لأن الفردية قتلت فينا الثقة فلا نساهم في رأس مال، وأضعفت شعورنا بالخير العام فلا نشارك في مشروع، ونشرت بيننا داء الحسد فلا نستقيم على رأي جميع؛ وما النهضة الاقتصادية الحديثة إلا نبوغ فرد أنس الناس بناحيته، واطمأنوا إلى كفايته، فأخلدوا إليه بالثقة، وألقوا في يديه المقاليد. والأدب هنا وهناك لا تزال دوافعه فردية ومراميه خاصة؛ فالقصيدة عواطف

<<  <  ج:
ص:  >  >>